لَا يَخفَى على أحد تَارِيخ العلاقات المتوتِّرة بَيْن الولايات المتَّحدة وإيرَان الإسْلاميَّة على عَكْس إِيرَان الشَّاه ، حَيْث كان البهْلويَّ شُرْطِي الولايات المتَّحدة فِي المنْطقة ، وَفِي كُلِّ مَفاصِل التَّوترات وَالتِي بَدأَت بِاسْتقْبال واشنْطن لِلشَّاه المخْلوع مُرورًا بِالْهجوم على السِّفارة الأميركيَّة فِي طَهْران 1979 واحْتجاز 52 مُوَظفا وليْس اِنتِهاء بِالْمِلفِّ النَّوَويِّ ، كَانَت إِسْرائيل حَاضِرة فِي المشْهد، وَكُل مَا تَقدُّم وَغيرِها مِن العوامل السِّياسيَّة رَسمَت اَلحُدود الملْتهبة بَيْن الأجنْدات المتصارعة لِلْبلديْنِ.
ولَا تَتَوقَّف المواجهات الأمْريكيَّة الإيرانيَّة عِنْد حُدُود جُغْرافيَّة مُعَينَة، إِذ تَتَمدَّد بَيْن الفيْنة والْأخْرى، فبعْد أن كَانَت شِبْه مَحصُورة فِي مِنطَقة اَلخلِيج العرَبيِّ، لِسنوَات طَوِيلَة، تَوسعَت مُنْذ نَحْو عامٍ، مع بَدْء اَلهُجوم الرُّوسيِّ على أُوكْرانْيَا، وفي ذَلِك البلد، إذ تساند إيرَان رُوسْيَا يقابله على الطَّرف الآخر واشنْطن إِلى جَانِب كِييف.
فِي أُوكْرانْيَا
فَفِي أُوكْرانْيَا، قَالَت مَندُوبة واشنْطن لَدى اَلأُمم المتَّحدة، لِينْدَا تُوماس غِرينْفيلْد، فِي الرَّابع عشر مِن يَنايِر الماضي، إِنَّ إِيرَان زَودَت رُوسْيَا بِالْمئات مِن المسيرات فِي خَرْق لِلْقرارات الأمميَّة، وَأَوضحَت المسْؤولة الأميركيَّة أنَّ طَهْران، تَستَعِد أيْضًا لِتزْوِيد رُوسْيَا بِصواريخ باليسْتيَّة.
فِيمَا كان قد صَرَّح رئيس جِهَاز المخابرات العسْكريَّة الأوكْرانيَّة كريلو بُودانوف فِي وَقْت سَابِق، أنَّ رُوسْيَا تَعتَمِد على إِيرَان لِتجْدِيد تِرْسانتهَا الصَّاروخيَّة، وأوْضح أنَّ رُوسْيَا أَطلَقت حَتَّى الآن 540 مَسِيرَة إِيرانيَّة فِي ضَرَبات تكْتيكيَّة اِسْتهْدفتْ مَحَطات الطَّاقة والْكهْرباء الأوكْرانيَّة، مُبَيناً أنَّ مُوسْكو حَصلَت على 1700 طَائِرة مَسِيرَة إِيرانيَّة مِن طِرَاز “شَاهِد” بِموجب صَفقَة تمَّ إِبْرامهَا مع طَهْران، الصَّيْف الماضي.
مُشيراً كذلك إِلى أنَّ تَسلِيم هَذِه الطَّائرات يَتِم على دُفعات، وبالصَّدد، فَرضَت الولايات المتَّحدة فِي الواحد والثَّلاثين مِن يَنايِر، قُيوداً على الصَّادرات إِلى 7 كِيانَات إِيرانيَّة، وَأَوضحَت وِزارة التِّجارة الأميركيَّة فِي بَيَان أَنهَا أضافتْ هَذِه الكيانات إِلى قَائِمة الحظْر التِّجاريِّ الأميركيَّة، بِسَبب مُساعدتهَا لِلْجيْش الرُّوسيِّ فِي إِنتَاج الطَّائرات المسيرة.
كمَا أَعلَنت الخارجيَّة الأميركيَّة، فِي الخامس والْعشْرين مِن فبْراير، عن أَنهَا ستواصل مع الحلفاء، مُحَاسبَة المسْؤولين عن نَقْل مسيرَات إِيرَان لِروسْيَا، وقالتْ إِنَّها تَستخْدِم كُلَّ الوسائل ” لِتعْطِيل نَقْل مسيرَات إِيرَان لِروسْيَا “، مُتهمَة رُوسْيَا “بِاسْتخْدام مسيرَات إِيرَان لِضَرب البنْية التَّحْتيَّة لِلطَّاقة فِي أُوكْرانْيَا”، ومُشَددَة على أنَّ ” الأوكْرانيِّين يموتون اليوْم نَتِيجَة لِأفْعَال إِيرَان”.
وَكمَا فِي كُلِّ حَرْب تَبدَأ الأطْراف بِتنْظِيم صُفوفِهَا، وَبَينمَا نعيش عالماً تَلُوح فِيه بَوادِر حَرْب عَالمِية ثَالِثة بَيْن قُوَّتيْنِ دوْليَّتيْنِ ” النَّاتو ـ رُوسْيَا ” فِي أُوكْرانْيَا، يَنتَخِب الطَّرفان حُلفاءهمَا وَعلَى مَبدَأ “عَدُو عَدُوي صَديقِي” تَصطَف إِيرَان إِلى جَانِب رُوسْيَا فِي حرْبهَا بأُوكْرانْيَا وَضِد الولايات المتَّحدة على طُول اَلطرِيق.
فِي سُورْيَا
وبالْعوْدة إِلى تَوسُّع الصِّرَاع الأمْريكيِّ الإيرانيِّ مِن اَلخلِيج العرَبيِّ إِلى أُوكْرانْيَا، فَإِن مَواقِع أُخرَى فِي الشَّرْق اَلْأَوسط، مُرَجحَة أو أقلُّه تَملُّك اِحْتماليَّة رَفْع المواجهة بَيْن واشنْطن وإيرَان، وَمِنهَا سُورْيَا، أو تحْديداً المناطق الخاضعة لِسيْطَرة حُكُومَة دِمَشق، إِذ تَعتَمِد الأخيرة بِشَكل وَاسِع على المليشيات الإيرانيَّة لِتمْكِين حُكْمِها فِي المناطق الحدوديَّة مع العرَاق.
تِلْك المناطق هِي اِلبوكَمَال والْميادين فِي أَريَاف دَيْر الزُّور، وَالتِي تُعتَبَر ذات أَهَميَّة قُصوَى بِالنِّسْبة لإِيرَان، على اِعتِبارها بَوَّابة اَلطرِيق البرِّيِّ الواصل مِن طَهْران إِلى دِمَشق، عُبوراً بِبغْدَاد، وَوصُولاً لِبيْروت.
وفي هذا السياق، تَعرضَت دَيْر الزُّور فِي الثَّامن مِن مَارِس الماضي، لِغارة نفَّذتْهَا طَائِرة مَسِيرَة، مَا أَدَّى إِلى مَقتَل أَربَعة أَشخَاص فِي تِلْك المنْطقة اَلتِي تُسيْطِر عليْهَا فَصائِل مُوَاليَة لِإيرَان، فِيمَا أفادتْ مَصادِر غَربِية بِأنَّ الغارة اِسْتهْدفتْ أَسلِحة إِيرانيَّة، ونفَّذتْهَا أَمرِيكا بِتنْسِيق مع إِسْرائيل، بيْنمَا أَوضَح مُدير المرْصد السُّوريِّ لِحقوق الإنْسان، رَامِي عَبْد الرَّحْمن، بِأنَّ الضَّرْبة اِسْتهْدفتْ مُسْتوْدعًا لِلصَّواريخ الإيرانيَّة، وَشاحِنة مُحَملَة بِالسِّلاح.
وقد أَشَار مُراقِبون اَلْعام الماضي، إِلى وُجُود نَحْو 15 أَلْف مُقَاتِل مِن المجْموعات العراقيَّة والْأفْغانيَّة والْباكسْتانيَّة الموالية لِإيرَان فِي دَيْر الزُّور وحْدهَا، وتحْديداً المنْطقة الممْتدَّة بَيْن مدينَتيْ اِلبوكَمَال الحدوديَّة وديْر الزُّور، مُروراً بِالْميادين ومناطق أُخرَى مِن سُورْيَا، وَهِي المناطق اَلتِي غالباً مَا تَشهَد ضَرَبات مَجهُولة المصْدر، تَستهْدِف مَراكِز تِلْك الميليشْيات اَلتِي تَبسُط سيْطرتهَا هُنَاك.
فِي شَمَال وشرْق سُورْيَا
وليْس بعيداً عن اِلبوكَمَال والْميادين، إِنَّما على الطَّرف المقابل مِن نَهْر اَلفُرات، فَإِن مَناطِق شَمَال شَرْق سُورْيَا، الخاضعة لِسيْطَرة ” قُوَّات سُورْيَا الدِّيمقْراطيَّة” ، حَلِيفَة واشنْطن فِي حرْبهَا على تَنظِيم دَاعِش الإرْهابيَّ، مُهَيئَة هِي اَلأُخرى لِمواجهة أمْريكيَّة إِيرانيَّة، وقد تَأخُذ شكْلاً أَكثَر تطوُّراً عن الصِّرَاع فِي اِلبوكَمَال والْميادين، اَلتِي يَنحَصِر الصِّرَاع فِيهَا حاليّاً، على الضَّربات اَلْجَوية اَلتِي تَستهْدِف شِحْنَات السِّلَاح الإيرانيِّ لِدمشْق وحزْب اَللَّه اللُّبْنانيِّ، أو الفصائل الفلسْطينيَّة الدَّائرة فِي فلك إِيرَان .
فَفِي شَمَال شَرْق سُورْيَا ، تَتَواجَد قَواعِد أمْريكيَّة، بِالتَّعاون مع “قسد”، وَهِي قُوَّات بَريَّة، مَا قد يَعنِي بِأنَّ المعْركة قد تَأخُذ شكْلاً برِّيّاً فِي مُواجهات بَيْن “قُوَّات سُورْيَا الدِّيمقْراطيَّة” مِن طرف، والْمليشيات الإيرانيَّة فِي شَرْق سُورْيَا مِن الطَّرف الآخر، وبِالْأَخصِّ أنَّ اَلقُوات الأمْريكيَّة، أَرسَلت خِلَال الشُّهور القليلة المنْصرمة اَلكثِير مِن اَلعُدة والْعتاد، بِمَا فِيهَا مَدافِع هاوتْزر اَلتِي يَصِل مداهَا إِلى 40 كم، فِي إِشارة إِلى إِمْكانيَّة اِندِلاع مَعْرَكة بَريَّة.
وقد أَجرَى رئيس هَيئَة الأرْكان الأميركيَّة المشْتركة الجنرال مارْك مِيلي، زِيارة مُفَاجئَة لِسورْيَا، فِي الرَّابع مِن مَارِس الماضي، لِتقْيِيم مُهمَّة عُمْرِها 8 أَعوَام تقْريباً لِمُحاربة تَنظِيم “دَاعِش” ومراجعة إِجْراءات حِماية اَلقُوات الأميركيَّة مِن أيِّ هُجُوم، إِذ صَرَّح لِلصِّحافيِّين المُسافرين معه، أَنَّه يَعتَقِد أنَّ ” اَلقُوات الأميركيَّة وشركاءهَا السُّوريِّين الَّذين يقودهم الكرد، يُحْرزون تقدُّماً فِي ضَمَان إِلحَاق هَزِيمَة دَائِمة لِتنْظِيم دَاعِش”.
أَمَّا لَدى سُؤَالِه عَمَّا إِذَا كان يُعتَقَد أنَّ مُهمَّة سُورْيَا تَستَحِق المُخاطرة، فقد رَبْط مِيلي اَلمهِمة بِأَمن الولايات المتَّحدة وحلفائهَا، قائلاً: ” إِذَا كان سُؤَالك هُو: هل هَذِه اَلمهِمة ضَرورِية؟ فَإِن الإجابة هِي نعم”.
قصف مُتبادل شرق سوريا
وقد استفزت تلك الزِيارة كل من الدولتين الاقليميتين تركيا وايران وميليشياتهما، حَيْث أَعلَنت القيادة المرْكزيَّة الأميركيَّة، فِي الرَّابع عشر مِن مَارِس، عن تَعرَّض مَوقِع لِقوَّات التَّحالف اَلدوْلِي فِي شَمَال شَرقِي سُورْيَا لِهجوم صَارُوخي، وهو ما نَدَّد به المتحدِّث بِاسْم القيادة المرْكزيَّة الأميركيَّة، جوّ بُوتْشينو، قائلا إِنَّ ” مِثْل هَذِه الهجمات الصَّاروخيَّة تَعرَّض قُوَّات التَّحالف والْمدنيِّين لِلْخطر وتقوِّض الاسْتقْرار والْأَمْن اَلذِي تَحقَّق بِشقِّ الأنْفس فِي سُورْيَا والْمنْطقة”.
فيما قَالَت وِزارة الدِّفَاع الأميركيَّة “البنْتاغون”، فِي الثَّالث والْعشْرين مِن مَارِس، بِأنَّ الجيْش الأميركيَّ نَفَّذ “ضَرَبات جَويَّة دَقِيقَة” فِي سُورْيَا، بَعْد مَقتَل مُتَعاقِد وإصابة خَمسَة جُنُود أميركيِّين فِي هُجُوم وقع فِي وَقْت سَابِق مِن ذَلِك اليوْم، كمَا قال البنْتاغون أنَّ الضَّربات جَاءَت ردّاً على هُجُوم اِسْتهْدف قَاعِدة تَحالُف تَقودُه الولايات المتَّحدة قُرْب الحسَكة فِي شَمَال شَرْق سُورْيَا.
إذ منح اَلرئِيس جُو بَايدِن الأذن لِتنْفِيذ ضَربَة جَويَّة دَقِيقَة “فِي شَرْق سُورْيَا، ضِدَّ المنْشآتِ اَلتِي تسْتخْدمهَا الجماعات التَّابعة لِلْميليشْيات”، حسب مَا قال وزير الدِّفَاع لُويد أُوسْتِن فِي بَيَان، وَذكَر وزير الدِّفَاع الأميركيِّ: ” نَفذَت الضَّربات ردًّا على هُجُوم اليوْم، وَكذَلِك سِلْسلة مِن الهجمات فِي اَلآوِنة الأخيرة على قُوَّات التَّحالف فِي سُورْيَا”.
وأرْدف أُوسْتِن: “سَنتخِذ جميع الإجْراءات اللَّازمة لِلدِّفَاع عن شعْبنَا وسنردُّ دائماً فِي الوقْتِ والْمكان اللَّذَيْنِ نخْتارهمَا… لَن تَستطِيع أيَّ جَماعَة ضَرْب قُوَّاتِنَا دُون عِقَاب”.
بينما أَكَّد مُنسِّق الاتِّصالات الاسْتراتيجيَّة فِي مَجلِس الأمْن اَلقوْمِي بِالْبَيْتِ الأبْيض، جُون كِيرْبي، فِي السَّادس والْعشْرين مِن مَارِس، بِأنَّ بِلاده لَا تَعتَزِم تَقلِيص وُجودِهَا العسْكريِّ فِي سُورْيَا بَعْد سِلْسلة مِن الضَّربات على قاعدتهَا، كما لم يَستبْعِد كِيرْبي شنِّ هُجُوم على الجماعات الموالية لِإيرَان فِي سُورْيَا.
مُضيفًا: “لَا أَستبْعِد بِالتَّأْكيد إِمْكانيَّة تَنفِيذ هُجُوم فِي حالٍ رأى اَلرئِيس أنَّ هُنَاك ضَرُورَة لِحماية جيْشنَا وقواعدنَا”، وَهُو مَا يُشير بِشَكل أو بِآخر، إِلى وُجُود إِمْكانيَّة مُوَاجهَة بَريَّة بَيْن اَلقُوات الأمْريكيَّة والْمليشيات الإيرانيَّة فِي شَرْق سُورْيَا، بِالْأَخصِّ مع وُجُود قَاعِدة عَسكرِية لِلتَّحالف اَلدوْلِي فِي مِنطَقة التُّنْف، الواصلة بَيْن اَلطرِيق اَلمُمتد مِن بَغْداد إِلى دِمَشق، حَيْث تَملِك واشنْطن حليفًا مُتمثِّلا بـ ” جَيْش سُورْيَا اَلحُرة”.
ورغْم كُلِّ هَذِه التَّناقضات والصِّراعات بَيْن الولايات المتَّحدة وإيرَان إِلَّا أنَّ هُنَاك طاولَات تفاوضيَّة جَمعَت وَرُبمَا تَجمَّع كِلَا البلديْنِ فِي كثير مِن الملفَّات وَعلَى رأْسهَا الملفِّ النَّوَويِّ ، وَبَينمَا الخيارات مَفتُوحة لِكلِّ الاحْتمالات فِي سُورْيَا ، فهل سنشْهد تطوُّرًا لِلصِّدامات المتكرَّرة بَيْن الجانبيْنِ لِتؤول إِلى حَرْب مُبَاشرَة ؟ هذَا مَا سَتكشِف عَنْه الأحْداث والتَّطوُّرات مِن أُوكْرانْيَا إِلى سُورْيَا مُرورًا بِلبْنَان، العرَاق، والْخليج الصَّاعد إِلى تَسوِية مع إِيرَان بِوساطة صِينيَّة .