دارا مصطفى
سابقة تاريخية: الخليج يدخل معادلة النار
يشكّل القصف الإسرائيلي الأخير على الدوحة نقطة انعطاف حقيقية في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي والإقليمي ككل. هذه ليست مجرد عملية اغتيال لقيادات فلسطينية، بل إعلان عن تغيّر في قواعد اللعبة الاستراتيجية. فللمرة الأولى تُنقل الضربة إلى قلب الخليج، حيث كانت العواصم الخليجية تاريخياً خارج معادلة النار المباشرة، حتى في أحلك مراحل المواجهات مع إيران أو خلال حرب الخليج.
رسائل إسرائيل إلى الخصوم والوسطاء
إسرائيل أرادت من هذه الضربة إيصال رسالة متعددة الأبعاد: “لم يعد هناك مكان آمن لخصومي مهما كانت طبيعة الدولة المستضيفة أو موقعها الجغرافي”. والدوحة، التي تبنّت لعقدين دور الوسيط بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وجدت نفسها فجأة في قلب مرمى الصواريخ. هذا يعكس تصوراً إسرائيلياً جديداً: وظيفة الوسيط لم تعد كافية لضمان الحصانة، بل قد تتحول إلى عبء إذا كانت الدولة الوسيطة تمنح مظلة لوجستية أو سياسية للفصائل المسلحة.
تركيا كبديل محتمل لإيران
لكن التطور الأخطر لا يتوقف عند قطر. فالمسار الموازي الذي يجب التوقف عنده هو العلاقة المتوترة والمتشابكة بين إسرائيل وتركيا. خلال السنوات الماضية، ومع انحسار الدور الإيراني جزئياً تحت وطأة العقوبات والضربات الإسرائيلية المتكررة، بدأت أنقرة تتحرك لملء هذا الفراغ في أكثر من ساحة، خصوصاً في الشمال السوري. تركيا نسجت قنوات دعم لوجستي وعسكري عبر جماعات تدور في فلكها، كما أن هناك إشارات إلى انخراط تركي غير مباشر في تأمين احتياجات لحماس عبر الأراضي السورية.
الضربات الإسرائيلية لمستودعات تركية في سوريا
الضربات الإسرائيلية الأخيرة على مستودعات ذخيرة تركية المصدر داخل سوريا، بالتزامن مع قصف الدوحة، تكشف أن تل أبيب لم تعد تفصل بين الجبهات. بالنسبة إليها، أنقرة تتحول تدريجياً إلى منافس استراتيجي، ليس فقط بسبب خلافات سياسية حول غزة أو القدس، بل لأنها تقترب من لعب دور “المورّد البديل” الذي يمد الفصائل بالقدرة على الاستمرار. هنا يكمن جوهر التنبؤ بمواجهة إسرائيلية–تركية في المستقبل: الصدام قد لا يأخذ شكل الحرب المباشرة، لكن المواجهة غير المباشرة ستتعمق على مسارح عدة.
سوريا: ساحة المواجهة الأولى
أول هذه المسارح هو الساحة السورية، حيث تتقاطع مصالح أنقرة مع موسكو وطهران من جهة، ومع واشنطن وتل أبيب من جهة أخرى. إسرائيل أثبتت أنها مستعدة لضرب أي شحنة أو مستودع ترى فيه تهديداً، سواء كان مصدره إيران أو تركيا. هذا يعني أن أي توسّع تركي في تسليح حلفائها داخل سوريا سيقابلُ بعمليات إسرائيلية منتظمة. بمرور الوقت، سيتحوّل ذلك إلى اشتباك استنزافي غير مباشر: أنقرة تدفع بتعزيزات، وإسرائيل تقطع هذه الشرايين بالنار.
غزة: اختبار النفوذ التركي المباشر
المسرح الثاني قد يكون غزة نفسها. فمع انكشاف دور تركيا في توفير غطاء سياسي ودبلوماسي لحماس، خاصة بعد استقرار قياداتها في الدوحة وأنقرة، ستجد إسرائيل مبرراً أكبر لتصعيد الضغط على كل ما يتصل بالدعم التركي. وفي حال قررت أنقرة أن تترجم دعمها لحماس بخطوات أكثر علنية، فإن إسرائيل سترد بتوسيع دائرة الاستهداف، وربما عبر استخدام أدوات سيبرانية أو عمليات استخبارية على الأراضي التركية نفسها، وإن بشكل سري و ربما علني مثلما حصل في قطر.
الدبلوماسية الدولية: أنقرة بين الطموح والقيود
أما المسرح الثالث فهو الدبلوماسية الدولية. تركيا تطمح منذ سنوات إلى أن تكون مرجعية في القضية الفلسطينية، متجاوزة الدور الإيراني الذي لطالما كان صاخباً لكنه مكلف. غير أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة تضعها أمام مأزق: فكل محاولة لتوسيع حضورها في الملف الفلسطيني ستقابلُ بضغط عسكري مباشر على الأرض. هنا تبرز معادلة جديدة: إسرائيل لا ترد بالبيانات، بل بالعمليات الميدانية.
من البرود السياسي إلى التنافس الأمني
ما يمكن استشرافه هو أن السنوات المقبلة ستشهد انتقال العلاقة التركية–الإسرائيلية من مرحلة البرود السياسي إلى مرحلة تنافس أمني مفتوح. لن تكون هناك حرب شاملة بين الدولتين، فالمصالح الاقتصادية والعلاقات مع واشنطن تشكل كوابح قوية. لكن حرب الظل ستتسع: ضربات جوية في سوريا، معارك سيبرانية، حملات إعلامية متبادلة، وتضييق دبلوماسي متصاعد.
عقيدة إسرائيلية جديدة
إن قصف الدوحة ليس فقط رسالة إلى حماس وقطر، بل أيضاً إلى تركيا. إسرائيل تقول بشكل غير مباشر: “كما حاصرنا إيران وكسرنا أذرعها، سنفعل الشيء نفسه مع أي قوة تحاول أن تأخذ مكانها”. وإذا واصلت أنقرة السير في هذا المسار، فإن المستقبل القريب سيشهد مواجهة إسرائيلية–تركية منخفضة الوتيرة لكن عالية الرمزية، تجعل من الصراع الإقليمي أكثر تشابكاً وتعقيداً.