أردوغان والخليج.. زواج المصلحة بعد عقد من التوتر

ينظر البعض إلى جولة أردوغان الخليجية الأخيرة كتحول إيجابي في السياسة الخارجية التركية، إلا أنه ذلك يعد نظرة سطحية، فقد كشفت محطاته الخليجية الثلاثة بما لا يدع مجالاً للشك معاناة الاقتصاد التركي، والتي جعلت رئيس النظام التركي لا يجد طريقاً إلا مهادنة دول الخليج العربي، والأخيرة بدورها تريد الاستفادة من التغيرات التي طرأت على شكل النظام الدولي وخريطة التفاعلات التي يعاد رسمها في الشرق الأوسط لخدمة مصالحها.

وشملت جولة الرئيس التركي الخليجية كل من الإمارات والسعودية وقطر، وقد اصطحب معه وفداً ضخماً يضم أكثر من 200 رجل أعمال، حيث يأمل في البحث عن فرص لجذب الاستثمارات الخليجية، في وقت يرى وزير مالية تركيا الجديد محمد شيشمك أنه يجب إعادة تصحيح مسار العلاقات الخارجية من ذلك الاقتراب من الخليج لحل مشكلات الاقتصاد.

الاقتصاد المتدهور

ويعاني الأتراك من زيادات في ضريبة المبيعات والوقود، والتي يقول وزير المالية إنها ضرورية لاستعادة الانضباط المالي وخفض التضخم، وذلك بحسب تقرير حول الجولة الخليجية لوكالة أنباء أسوشيتيد برس الأمريكية، والتي ذكرت أن معدل التضخم السنوي الرسمي في تركيا وصل 38% الشهر الماضي، علماً أنه كان يصل إلى 85% في أكتوبر الماضي، ومع ذلك، يؤكد الاقتصاديون المستقلون أن المعدل الفعلي للتضخم كان حوالي 108% في يونيو.

وقد وصل عجز الحساب الجاري التركي إلى مستويات قياسية هذا العام بنحو  37.7 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى، ويأمل أردوغان أن تساعد دول الخليج الغنية بالنفط والغاز في سد الفجوة، كما شهد الشهر الماضي قيام البنك المركزي التركي برفع أسعار الفائدة بشكل كبير، مما يشير إلى تحول نحو سياسات اقتصادية أكثر تقليدية في أعقاب انتقادات بأن نهج أردوغان بخفض أسعار الفائدة قد زاد أزمة تكلفة المعيشة سوءاً.

في هذا السياق، يقول عمر رأفت الباحث في الشأن التركي، لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن الوضع الاقتصادي التركي يشكل السبب الرئيسي وراء التقارب التركي مع الخليج، إذ أن تركيا في هذه الآونة تعاني أزمات اقتصادية، وبالتالي يتوجه “أردوغان” إلى الخليج من أجل عقد اتفاقيات اقتصادية لإنقاذ الاقتصاد والعملة المنهارة.

ولفت “رأفت” إلى أن “أردوغان” نجح خلال تلك الزيارة في توقيع مذكرات تفاهم واتفاقيات بقيمة تبلغ 50.7 مليار دولار مع الإمارات، كما وقع مذكرات تفاهم في مجالات الطاقة والاستثمار المباشر مع السعودية، حيث تأمل “أنقرة” في جذب استثمارات تتراوح ما بين 25 مليار دولار و 30 مليار دولار إجمالاً على المدى البعيد.

وأصلح النظام التركي علاقاته مؤخراً مع السعودية والإمارات بعد خلاف دام لأكثر من عقد عقب أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي”؛ بسبب التدخلات التركية في شؤون تلك الدول، ودعم “أنقرة” تيارات الإسلام السياسي، ووقوف نظام أردوغان إلى جانب قطر في مواجهة ما عرف بدول الرباعي العربي المكون من مصر والبحرين إلى جانب الرياض وأبوظبي.

وقد ساعدت الأموال الخليجية النظام التركي في تخفيف الضغوط نسبياً على اقتصاده، فقد قدمت قطر والإمارات العربية المتحدة لتركيا حوالي 20 مليار دولار في شكل اتفاقيات تبادل العملات مؤخراً، بينما أودعت المملكة العربية السعودية 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي في مارس، وبعد أيام من إعادة انتخاب أردوغان الشهر الماضي، وقعت الإمارات العربية المتحدة وتركيا صفقة تجارية يحتمل أن تبلغ قيمتها 40 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة.

بيع أصول الدولة في تركيا

وكنتيجة للأزمة الاقتصادية، تحدثت كثير من التقارير التركية – خصوصاً المعارضة – عن اتجاه الدولة لبيع بعض الأصول والمرافق التي تملكها من أجل جذب العملة الصعبة والتعامل مع الأوضاع المالية المتعثرة، من ذلك مرفأ مرسين، في وقت يرغب مستثمري الخليج في الاستفادة من هذه الأصول التركية المعروضة للبيع.

وقال مصرفيون، وفق صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، إن أردوغان اصطحب معه في جولته الخليجية قائمة بالأصول التي تسعى تركيا لبيع حصص فيها، في الوقت الذي تتطلع فيه أنقرة إلى زيادة العملة الأجنبية لتجديد الاحتياطيات المستنفذة بشدة وإدارة عجز الحساب الجاري المتضخم.

وفق الصحيفة، يقول محللون أن منطقة الخليج – التي تضم بعضاً من أكبر صناديق الاستثمار السيادية في العالم – كانت نقطة انطلاق واضحة لأردوغان في محاولته لحشد الدعم للاقتصاد، حيث لا يزال عديد من المستثمرين الغربيين حذرين بشأن التزام الرئيس التركي بسياسات أكثر تقليدية، وهي السياسات التي يلقى عليها باللوم في دفع الاقتصادي لوضعه المتأزم حالياً وهروب المستثمرين الغربيين.

من جهته، يقول إسحاق أنجه المحلل السياسي التركي، لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن تركيا تحتاج إلى ضخ العملة الأجنبية لتتخلص من الأزمة الاقتصادية، وقد تساعد تلك الأموال الخليجية والاتفاقات – رغم عدم وضوحها – في إنعاش الاقتصاد، لكن هناك اعتراضات من المعارضة التركية حول بيع أصول الشركات القومية في مجالات حيوية.

وأضاف “أنجه” أن المعارضة كذلك توجه انتقادات لسياسة أردوغان في حل المشكلة الاقتصادية، وتعتبر أنه يلجأ إلى حلول مؤقتة بهذا الشكل، ويطالبون بحل المشكلة حلاً جذرياً، وضرورة إبرام اتفاقات مع الدول المتقدمة القادرة على ضخ الأموال الساخنة إلى تركيا لوقف ارتفاع الأسعار الجنوني وليس أموال الخليج التي ستأتي على مدار سنوات.

مصالح الخليج

وقد توترت العلاقات إلى أقصى مدى مع السعودية عقب واقعة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، إذ انضم أردوغان إلى الدول التي مارست ضغوطاً كبيرة على المملكة، على نحو نظر إليه بانه ابتزاز تركي للمملكة، كما وصلت الخلافات في بعض الفترات مع الإمارات إلى مرحلة التلاسن الكلامي بين الدولتين.

ويقول عماد المديفر الكاتب السعودي المتخصص في الدبلوماسية العامة، لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إنه لا تزال هناك شكوكاً خليجية تجاه نوايا الرئيس التركي وما كان يقتنع به من خطط توسعية يسعى إلى تنفيذها لا سيما بعد أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي” ومساعيه لتوظيف حركات الإسلام السياسي مثل جماعة الإخوان.

وأضاف “المديفر” أنه ما من شك أن الاقتصاد هو العامل الرئيسي وراء التقارب التركي الخليجي، لكنه ليس العامل الوحيد في تطور مسار العلاقات، وإنما الوضع الحالي للإقليم والتقارب الذي يحصل بين كثير من دوله يثير المخاوف لدى النظام التركي، وبالتالي بدء يعود مجدداً إلى سياسة تصفير المشكلات التي كان يسير وفقاً لها من قبل.

ويرى الكاتب السعودي أنه في ظل هذه التحولات الإقليمية وسياسة المملكة العربية السعودية الجديدة القائمة أيضاً على تصفير المشكلات في المنطقة تلاقت “الرياض” مع “أنقرة”، لأن الأولى لديها مشروعات اقتصادية واعدة تريد أن توفر لها البيئة المستقرة على الصعيد الإقليمي.

ولفت “المديفر” إلى أن “أردوغان” يدرك الآن أن المنطقة قد بات بها لاعبين إقليميين جدد لديهم القدرات والطموح اللازم، على نحو يؤكد أن زمن أفكار ما يسمى بـ”العثمانية الجديدة” ولى إلى غير رجعة، وأن المنطقة تعيش في الوقت الحالي مرحلة جديدة.

وفي تقرير سابق، تقول مجلة “فوريس بوليسي” الأمريكي إن دول الخليج تريد إعادة توجيه علاقاتها الخارجية في ظل التداعيات الدولية للحرب الروسية – الأوكرانية التي جعلت هذه الدول تريد الابتعاد قليلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية خاصة السعودية، نظراً لأنهم يرون أن “واشنطن” لم تعد تلقي اهتماماً كبيراً للمخاوف الأمنية الخليجية وتركيزها على مسألتي أوكرانيا وتايوان، وهذا ما دفع السعودية للتقارب مع إيران وروسيا والصين وتركيا كذلك.

ولا يستغرب كثير من المراقبين للشأن التركي التحولات في مواقف “أردوغان”، فهو من اكثر القادة السياسيين في المنطقة تلوناً وقدرة على تغيير مواقفه، للدرجة التي يصل بها إلى فعل الشيء ونقيضه وذلك على مدار أكثر من 20 سنة.

قد يعجبك ايضا