القاهرة ـ محمد إسماعيل
لا ينفصل المشهد الأخير في السودان والاشتباكات الجارية عن تفاقم الصراع والاستقطاب منذ العام الماضي بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية الحرب في أوكرانيا، ومساع كل طرف لتعظيم منافعه ونفوذه في الدول الأخرى، في تحركات تشبه كثيرا مرحلة الحرب الباردة.
وتجمع غالبية التقارير وآراء المراقبين للوضع في السودان أن الأخيرة تحولت إلى بؤرة لما يمكن تسميته بحرب الوكالة من خلال الدعم الروسي لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في مقابل الدعم الأمريكي لرئيس مجلس السيادة القائد الأعلى للقوات المسلحة الفريق عبدالفتاح البرهان، وبين موسكو وواشنطن تتباين المواقف العربية.
أنشطة منظمة فاجنر والأهداف الروسية في السودان
الوجود الروسي في السودان كان موضعا للبحث والتحليل من قبل الدكتورة كاترينا دوكسي وهي مدير برنامج الأمن الدولي والباحثة بمشروع التهديدات العابرة للحدود في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي، وخصوصا شركة فاجنر الروسية التي تعبر عن الوجود الروسي بشكل عملي، حيث أكدت أن الشركة الأمنية تعمل بشكل روتيني على تعزيز أهداف موسكو السياسية والعسكرية والاقتصادية، إذ أنها في السودان قدمت الدعم السياسي والعسكري للرئيس السابق آنذاك عمر البشير في ديسمبر 2017، لكن قبل هذا الدعم تفاوضت موسكو على سلسلة من الصفقات الاقتصادية والأمنية مع البشير لتسهيل هذه الشراكة، وهي الاتفاقات التي تضمنت على وجه الخصوص مجموعة من امتيازات تعدين الذهب لشركة M-Inves، وهي شركة روسية مرتبطة بالسيد يفجيني بريجوزين وشركته فاجنر، والحديث عن الذهب يعني الاتجاه على الفور نحو “حميدتي” المسيطر على الذهب في هذا البلد العربي الأفريقي.
واستمرت أنشطة فاجنر في السودان حتى بعد انقلاب أبريل 2019 الذي أطاح بالبشير من السلطة، وبدلاً من ربط نفسها بفصيل معين في الإدارة الحاكمة، ظلت فاجنر قابلة للتكيف مع أي طرف يدير البلاد وتتبع نهجا انتهازيًا في ظل الحكومة الانتقالية، كما أن الشركة وفق الباحثة دعمت الانقلاب العسكري عام 2021، الذي قدم حكومة أكثر اهتمامًا بمواصلة تعزيز العلاقات مع روسيا.
وقد أولت “فاجنر” وبالتالي روسيا الأولوية لمصالحها الرئيسية في السودان والتي تتمثل في تعدين الذهب وبناء شبكة من عمليات التنقيب عن الذهب بل وعمليات تهريب الذهب من السودان، وبالإضافة أن هذه الأعمال تسهم في تمويل عمليات فاجنر وتحقيق الأرباح، فقد ساعد تهريب الذهب هذا أيضًا في تخفيف وطأة العقوبات الدولية ضد الجهات الروسية الرئيسية، لا سيما في أعقاب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبالتالي اهتمام روسيا الأساسي في السودان هو الحفاظ على هذه العمليات والشبكات.
أما الأمر الثاني الذي يتمحور حوله الوجود الروسي في السودان هو إقامة قاعدة عسكرية في بورتسودان مطلة على البحر الأحمر إذ أن “موسكو” لطالما كان لديها الطموح بالوصول إلى البحر الأحمر، إذ توصلت مع الخرطوم إلى اتفاق لإنشاء قاعدة بحرية عام 2020 وفقا لها ستستضيف القاعدة المحتملة مركزًا لوجستيًا بحريًا وساحة إصلاح تصل إلى 300 فرد، وأربع سفن بحرية، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية.
وقد أوقفت الحكومة الانتقالية السودانية خططًا لإنشاء القاعدة البحرية في أبريل 2021، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الضغط الأمريكي، وحتى بعد انقلاب 2021، ظلت الحكومة العسكرية مترددة في إحياء الصفقة حتى وإن كانت مهتمة بمواصلة التعاون مع الروس.
وترى “دوكسي” أن الصراع الدائر حاليا في السودان سينعكس حتما على المصالح الروسية ومن هنا تدخلت “موسكو” عبر قوات فاجنر لدعم محمد حمدان دقلو “حميدتي” وقدمت الدعم اللوجيستي لقوات الدعم السريع سواء من خلالها بشكل مباشر، أو عبر معاقلها الإقليمية في أفريقيا الوسطى وليبيا.
وتزعم الباحثة بالمركز الأمريكي أنه على سبيل القائد العام لما يعرف بالجيش الوطني الليبي خليفة حفتر سارع إلى تقديم دعم لوجيستي لقوات الدعم السريع، وقد يسمح هذا النوع من الدعم أي الذي يتم عبر وسطاء إقليميين أن تنكر “فاجنر” تقديمها المساعدة لقوات الدعم السريع.
بدورها، نشرت صحيفة “التايمز” البريطانية تقريرا تقول فيه إن “حميدتي” وقوات الدعم السريع التي يسيطر عليها، توفر الحماية لشركة ميرو للذهب، وهي إحدى شركات التعدين التابعة لفاجنر والتي يديرها يفجيني بريجوزين والمتهم بتهريب الذهب من السودان إلى موسكو للمساهمة في دعم حرب روسيا على أوكرانيا.
أمريكا ترد بدفع مصر لدعم البرهان في مواجهة “حميدتي”
ويشير تقرير إلى أن مسؤولين أمنيين غربيين كشفوا لصحيفة وول ستريت جورنال أن الولايات المتحدة تشك في وجود صفقة بين فاجنر وحميدتي، وبالتالي دفعت واشنطن مصر إلى مساندة ودعم القوات المسلحة السودانية، ورئيس المجلس السيادي، عبد الفتاح البرهان، بهدف طرد فاجنر من البلاد.
وينقل التقرير، بحسب موقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، عن كاميرون هادسون، من مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، قوله إن “سيطرة فاجنر على السودان ستربط خطوطها من البحر الأحمر إلى أفريقيا الوسطى، وبالتالي ستصبح السودان جوهرة التاج الأفريقي”.
ويقول التقرير إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسع سلطة بلاده في أفريقيا عدة مرات، باستخدام مجموعة فاغنر، التي تتدخل لدعم الحكومات الضعيفة، ومصر التي تدعم البرهان، يُقال إنها على المحك، تخشى من انهيار السودان.
إلا أن الموقف الرسمي المصري وعلى لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي أكد ضرورة وقف هذا الصدام المسلح، وأعرب عن استعداد بلاده إلى جانب جنوب السودان للوساطة من أجل إعادة الاستقرار إلى السودان.
“البرهان” و”دقلو” وحساباتهم تجاه القوى الدولية
في يوليو 2022 كشف تحقيق لشبكة “سي إن إن” الأمريكية أن القادة العسكريين في السودان منحوا روسيا حق الوصول إلى ثروات الذهب في الدولة الواقعة في شرق إفريقيا مقابل الدعم العسكري والسياسي.
وفق التحقيق، كانت قوات “دقلو” من المتلقين الرئيسيين للتدريب والأسلحة الروسية، وتعتقد مصادر “سي إن إن” السودانية أن القائد العسكري السوداني عبدالفتاح البرهان كان مدعومًا من روسيا، قبل أن يجبره الضغط الدولي على التنصل علنًا من وجود مجموعة فاجنر.
وفق سي إن إن، فقد عزز كل من البرهان ودقلو صعودهما إلى السلطة من خلال تملق القوى الخليجية، فقد قادوا كتائب منفصلة من القوات السودانية، الذين تم إرسالها للخدمة مع قوات ما يسمى بـ”التحالف العربي” الذي كانت تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن.
الجانب الروسي يرى أن الاتهامات الأمريكية مضحكة
بدوره، يقول الدكتور عباس حبيش نائب رئيس المركز الثقافي الروسي العربي في روسيا، إن روسيا بمختلف المستويات أعلنت وأكدت أنها لا يمكن أبدا أن تسمح لنفسها أن تتدخل بشكل مباشر في الصراع السوداني أو تتدخل مع طرف ضد طرف في السودان. وأضاف، في تصريحات خاصة لمنصة “تارجيت” الإعلامية، أن الدولة الروسية يهمها أن يكون لها علاقات جيدة مع السودان، كما أن السودان بالنسبة لروسيا لديه أهمية استراتيجية كبيرة خصوصا في مسألة الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين والتي ترتبط بأمور اقتصادية وعسكرية وغيرها.
وقال “حبيش” إن الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا هي من قسمت السودان في السابق، ولم يأخذوا بعين الاعتبار رأي السودانيين أنفسهم، وهذه المصيبة الكبرى عند الأمريكيين يتهمون الآخرين ويريدون الظهور وكأنهم ملائكة. وأكد السياسي الروسي أن واشنطن لم تترك السودانيين لحل مشاكلهم بأنفسهم، وهو الأمر الذي تنادي بها موسكو بأن على السودانيين أن يحلوا مشاكلهم حسب تقاليدهم وعاداتهم لا أن نعطيهم روشتة جاهزة.
وقال “حبيش” إن روسيا حريصة على علاقات جيدة مع جميع الأطراف في السودان، أما بالنسبة للاتهامت الأمريكية بشأن دعم “فاجنر” للسيد “حميدتي”، فيجب أن نوضح هنا أن مجموعات “فاجنر” كانت موجودة في السودان منذ أن كانت كل الأطراف متفقة وأخذت جزء من عملية تدريب عسكري وتنظيمي لقوات الدعم السريع التي يقودها “حميدتي”، وبالتالي فاجنر إذا كانت موجودة أو غير موجودة فإنها في كل الأحوال لا تقف مع طرف دون آخر، ومن ثم فإن الاتهام بأن فاجنر هي المسؤولة عما يدور في السودان اتهام مضحك، فقد كان هناك اتفاق على وجودها وقتأن كان كل السودانيين متفقين.
وأشار “حبيش”، في سياق حديثه لمنصة “تارجيت” أن هناك تمن روسي بأنه من الأفصل أن يلعب الإخوة العرب دورا في إصلاح ما بين الطرفين المتصارعين في السودان، مثل مصر والسعودية والإمارات، وإذا كان هناك ضرورة من مساعدة دولية للدول العربية في هذه المهمة فيجب أن تكون روسية صينية، وليست غربية لأن الدول الغربية أخفقت في كل الملفات خصوصا تلك المتعلقة بالدول الأفريقية.