القاهرة ـ محمد اسماعيل
في يوم الثلاثاء 18 أبريل طرحت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا مبادرة من أجل حل الأزمة السورية، وكان ملاحظاً بشكل كبير أنها تضمنت مجموعة من المبادئ والقيم ظهرت في تفاصيل وبنود تلك المبادرة لتعكس قدراً كبيراً من الديمقراطية والنضج السياسي لدى هذه الإدارة في بلد يعاني لأكثر من 12 عاماً، ومحنة الديمقراطية والحقوق هي صلب أزمته.
فعلى مدار السنوات الماضية أثبت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بما لا يدع مجالاً للشك بأن الديمقراطية هي المفتاح الحقيقي لكثير من أزمات شعوب المنطقة، فيمكن أن تتمتع هذه الشعوب بنفس القدر من الحقوق وتمارس حقوقها بحرية في جو من الأمن والاستقرار، وأنه يمكن بشكل طبيعي إعلاء دور المواطن من خلال الإدارات الذاتية التي تحقق إشراف المكونات مباشرة على تسيير أمور مناطقهم لتذليل العقبات ومواجهة التحديات فيها، فضلاً عن استقرار ناتج عن مشاركة كل مكونات شمال وشرق سوريا في هذه الإدارة.
نظام ديمقراطي يعبر عن التنوع
وتشكلت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في بعض مناطق الرقة وحلب والحسكة ودير الزور، وهي منطقة جغرافية سورية تتميز بالتعدد العرقي والإثني واللغوي، فيها الكرد والعرب والآشوريين والسريان إلى جانب مجموعات من الأرمن والإيزيديين والتركمان والشيشان والكلدان والشركس، وبالتالي الإدارة الذاتية ليست معبراً عن المكون الكردي فقط.
وتقوم فلسفة الإدارة الذاتية على النظام العلماني الديمقراطي، كما تعتمد فكراً تحررياً والمساواة بين الجنسين وهذا ظهر واضحاً من خلال مشاركة المرأة والرجل في مختلف المناصب والمواقع الرسمية وكل فعاليات الحياة السياسية والعسكرية والثقافية.
ثورة على مفهوم الدولة القومية الظالم
في هذا السياق، يقول محمد حسن عامر الكاتب الصحفي المصري المتخصص في الشؤون الخارجية إن تجربة الإدارة الذاتية تعبر عن نوع من الثورة ضد مفهوم الدولة القومية التي تحولت إلى نموذج متطرف يقصي على سبيل المثال غير العرب، حيث برز هذا التوجه مع سيطرة حزب البعث على السلطة في سوريا، والذي ما إن خرجت الاحتجاجات ضده حتى أخذ الأمر بعداً طائفياً نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية، وهو الأمر الذي كان موضع رفض لدى سكان مناطق شمال وشرق سوريا، والذين يمكن القول إنهم خرجوا بثورة ديمقراطية خاصة وتضمن التعايش السلمي بين الجميع في هذه المناطق.
وأضاف، في تصريحات خاصة لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن الإدارة الذاتية تعتمد على عدة مبادئ أبرزها مفهوم الأمة الديمقراطية وليس القومية، والتي من خلالها تتحول القوميات إلى أمم ديمقراطية ذات هوية منفتحة تتكامل مع بعضها بشكل طوعي وليس بقوة السلطة، كما تؤكد الإدارة الذاتية أن الجميع يعيشون في وطن مشترك للجميع، وليس حكراً على قومية بعينها أو أصحاب مذهب أو لغة بعينهم ما يؤدي إلى حالة من الإقصاء، بل مفهوم الوطن المشترك يجعل الدولة متسعاً يحتضن الجميع.
ولفت الكاتب الصحفي إلى أن الإدارة الذاتية تقتنع بفكرة الدولة الجمهورية الديمقراطية اللامركزية وليس الجمهورية القومية، لأن الجمهورية الديمقراطية اللا مركزية تعلي الحل الديمقراطي الذي يحترم التنوع، وليست القومية والمركزية التي تريد صهر الجميع في بوتقة واحدة وتضع زمام الأمور بقرار مركزي استبدادي، كما تقتنع الإدارة الذاتية بضرورة أن يكون لهذه الجمهورية الديمقراطية دستور ديمقراطي يكون وجهة لتأمين تقديم حلول للقضايا الوجودية، وهذا الحل يجب أن يكون ديمقراطيا أي قادم من المجتمع المدني ومن مؤسساته وليس من مؤسسات السلطة، ومن ثم يكفل التعايش السلمي بين مؤسسات السلطة ومؤسسات الديمقراطية.
وفي ختام تصريحاته، يقول عامر إنه مبدأ وحدة الحقوق والحريات الفردية والجماعية يرتبط بالمبادئ السابقة، وهو المبدأ الذي يعني أن للجميع نفس الحقوق بشكل فردي أو جماعي بصرف النظر عن هوية الفرد أو المجموعة البشرية، فالكرد في مناطق الإدارة الذاتية لديهم نفس حقوق العرب والعرب لديهم نفس حقوق الكلدان والآشوريين وغيرهم، وهذه المبادئ ترتبط بأن يكون لدى المجتمع قدر من الحماية الذاتية تمكنه من الحفاظ على ديمقراطيته.
تجربة فريدة في الشرق الأوسط
بدوره، يقول الدكتور طه علي وهو باحث متخصص في الشأن الكردي إن الكرد في سوريا يخوضون تجربةً فريدةً في منطقة الشرق الأوسط، من خلال “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، حيث يسعى الكرد لإدارة شؤونهم بشكل ذاتي في نطاق جغرافي بداخل الدولة السورية، بعد أن تولَّدت لديهم قناعة بصعوبة تشكيل دولة قومية كردية تصطدم بواقع الكيان القائم للدولة القومية في مناطق تواجدهم بسوريا والعراق وتركيا وإيران.
وأضاف، في تصريحات لمنصة “تارجيت” الإعلامية أنه وبناءً على ما سبق كانت فكرة “نموذج الإدارة الذاتية” على أساسٍ من اللامركزية هي الحل الأمثل في إطار الدولة القائمة بسوريا.
أما عن واقع هذه التجربة، يقول الدكتور طه علي إنها عكست حالة ديمقراطية متميزة في إدارة الشؤون الذاتية وخاصة أن نطاقها الجغرافي لا يقتصر على العنصر الكردي فحسب، بل هناك فئات أخرى من العرب والآشوريين والسريان، وقد انعكس ذلك على دمج هذه العناصر في شؤون الإدارة الذاتية بالمستويات المتعددة.
ولفت إلى أنه على صعيد النهج الديمقراطي، تقوم الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا على أساس مشاركة المجتمع المدني في الشؤون الذاتية، من خلال تقديم التنسيق مع المستويات التنفيذية في إطار تقديم الخدمات الجماهيرية.
وأشار الباحث إلى أن المرأة كذلك تحصل على وضعٍ متميز في إطار الإدارة الذاتية من خلال “الرئاسة المشتركة” لتقاسم المناصب المختلفة بين الرجال والنساء، وقد تأسست “منسقية المرأة” في عام 2021 كجزءٍ من هيكلية الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.
ويرى الدكتور طه علي أنه رغم الطفرة الديمقراطية التي تحققت في شمال وشرق سوريا، إلا أن ثمة عديد من التحديات التي تواجهها هذه التجربة، وأهمها رفض الدول المجاورة لها، حيث تخشى النخب الحاكمة فيها انتقال تلك التجربة إليها بما يهدد وحدة واستقرار الدولة وفقا للمنظور القومي في الدول التي يوجد فيها الكرد بالشرق الأوسط كما ترى هذه النخب القومية الحاكمة.
مبادرة الإدارة الذاتية لحل الأزمة السورية تعبر عن تجربتها الديمقراطية
وقد جاءت المبادرة التي طرحتها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لتعبر عن هذا النهج الديمقراطي، حين أكدت أنه يجب البحث عن حل للأزمة السورية داخل البلاد، وأن يكون لكل القوى السياسية (أحزاب – منظمات نسائية، وشبابية) بغض النظر عما إذا كانت كبيرة أو صغيرة رأي في رسم مستقبل إدارة البلاد وشكلها في سوريا، مشددة على أن لهذا الموضوع أهميةً كبيرة في تحقيق السلام والاستقرار فيها.
كما أكدت أن سوريا بلد جميع المكونات التي تعيش فيها، ولذلك، لا بديل من أن تؤدي هذه الجماعات دوراً فاعلًا في تحديد مستقبلها وحلِّ أزمة البلاد، مؤكدة كذلك أن الافتقار إلى السياسة الديمقراطية والاجتماعية وفقدان الاعتراف بخصوصية سائر المكونات السورية وحقوقها هو أساس الأزمة السورية.
في هذا السياق، يقول محمد فتحي الشريف الباحث في الشؤون العربية إن المبادرة التي أطلقتها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عبرت في كثير من مفاهيمها عن حالة النضج الديمقراطي في هذه المناطق، وخصوصاً أنها تمسكت في الوقت ذاته بمسألة وحدة سوريا والحفاظ عليها.
وأضاف “الشريف”، في تصريحات لمنصة “تارجيت” الإعلامية، أنه لو لم تكن هناك ديمقراطية في مناطق الإدارة الذاتية لما دعت إلى الحوار مع النظام، ولما دعت إلى حل سياسي حرصت من خلاله التأكيد على ضرورة أن يشمل جميع مكونات الشعب السوري أيا كان حجمها.
وتابع: “وبالتالي جاءت المبادرة لتعبر بقدر كبير عن حالة من التناغم بين المواقف السياسية للإدارة وفي نفس الوقت قناعاتها الديمقراطية، وأن تجربتها يمكن أن تطوع وتكون بمثابة منهاج تقوم عليه الدولة السورية ككل، وهو النهج الديمقراطي القائم على الحريات واحترام الجميع”.