أحمد عبدالرحمن
“عيدٌ عرفه أطفالي من تغير مواعيد الطعام فقط” بهذه الكلمات المليئة بالألم بدأ محمود العبدالله ( 32 عاماً ) حديثه لمنصة “تارجيت” الإعلامية عن أجواء عيد الفطر التي مرت على عائلته المكونة من خمسة أفراد بعد أيام عجاف قاسية عاشوها منذ نزوحهم الذي اعتبروه حينها أصعب ما قد يمر على الإنسان خلال حياته، على وقع الزلزال المدمر الذي ضرب محافظة إدلب شمال غرب سوريا في السادس من شباط 2023.
يقول الشاب الثلاثيني؛ إنه لا يوجد أصعب من ترك منزل الطفولة وملاعب الشباب وذكرياتهما، كما أن هذه الأيام بقساوتها ومرارتها لم تمنعه هو وزوجته من الفرح بقدوم العيد ولو بالحد الأدنى، لأنه يرى أن الأطفال لا ذنب لهم حتى لو تغيرت الأماكن، والمحاولة في صنع فرحتهم تبعث السعادة والطمأنينة في نفوس الآباء. ولكن، العبدالله أصر على أن هذا العيد ليس كالأعياد السابقة، إذ لم يجبر أطفاله على النوم باكراً لكي يأتيهم العيد الذي اعتادوا عليه أن يبدأ ساعاته الأولى باللباس الجديد والهدايا والزوار والبهجة التي تملأ المنزل “للمرة الأولى منذ زواجي قبل سبعة أعوام، لا يخبئ أطفالي ثيابهم تحت وسادتهم لكي تكون أول ما تقع أعينهم عليه عندما يأتي العيد”.
في صباح يوم العيد قرر محمود وزوجته أن لا يوقظوا أطفالهم من نومهم عندما رأو أنه لا فرق بين يوم العيد والأيام التي سبقته “لأن اليومان سواسية” إلا أنهم استيقظوا على أصوات صخب أقرانهم أمام خيمتهم التي أصبحت بيتهم الجديد، والدائم حالياً منذ زلزال شباط الذي فقدوا فيه جميع ما يملكون تحت أنقاضه، إذ لم يستطع حينها أن يكتم دمعته عندما رأى صغاره يسترقون السمع لأصوات الأطفال وضحكاتهم، وأصوات لعبهم وفرحهم في وقت يجلس أطفاله بفراشهم وعلى وجوههم أسئلة كثيرة عجز الأب عن الإجابة عنها، وأماني لم يتمكن من تحقيقها رغم بساطتها “لا قدرة لي على شراء ملابس جديدة لأطفالي الثلاثة، ولا حالتنا النفسية تسمح لرائحة حلوى العيد بالانتشار في أرجاء الخيمة، بعدما فقدنا إحدى عشر شخصاً من أقربائنا في الزلزال”.
وقال العبدالله في نهاية حديثه، إنه عند الساعة التاسعة صباحاً أنهت زوجته اعداد وجبة الإفطار، المكون من صحن من الزيت والزعتر وآخر من الزيتون وثالث من المكدوس، إلى جانبهم كأسين من الشاي، كان قد تصدق بهم عليهم أحد أقربائهم بعد فقدان مؤونتهم تحت أنقاض منزلهم، حيث أدرك أطفالهم حينها أن شهر رمضان قد انتهى والعيد حل، من خلال تغير موعد الطعام فقط.
خلافاً للأعياد الماضية التي كانت تمر على السوريين في مناطق شمال غرب سوريا بأصوات القصف وهدير الطائرات التي غالبا ما كانت تمنعهم من مزاولة طقوس العيد وفرحته، أتى عيد الفطر هذا العام على بعض مدن وبلدات إدلب بأجواء مشابهة، لكن ليس بسبب العمليات العسكرية، إنما بفعل الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة في السادس من فجر شباط /فبراير، وخطف معه آلاف الأرواح وهدم عشرات آلاف البيوت وشرد ساكنيها ضمن المخيمات ومراكز الإيواء المؤقتة، إذ اقتصرت الطقوس هذا العام عند قسم كبير من السكان على تبادل التهاني من خلال الاتصالات والمراسلة على منصات التوصل الاجتماعي.
لا يختلف حال مرام السيد (35 عاماً) المقيمة في بلدة عزمارين المحاذية لنهر العاصي قرب الحدود السورية التركية عن حال عائلة محمود، حيث تتقاسم العائلتين الأحزان والدموع من جراء الزلزال الذي دمر منازلهم وخطف أرواح أقربائهم ومحبيهم، وأجبرهم على الإقامة في الخيام. تقول السيد التي فقدت زوجها ووالديه وأحد أطفالها بالإضافة إلى منزلهم الطابقي في حديث لـ “تارجيت” إن العيد هذا العام يختلف كلياً عما سبقه من الأعياد، موضحة أن طقوس العيد هذا العام اقتصرت على تبادل المعايدات عبر الهاتف فقط “فلم يعد لدي زوج يؤمن متطلباتي وأطفالي، أو يصطحبني معه إلى زيارة الأقارب والمنتزهات والمطاعم، أو أماكن لهو للصغار، حتى إلى الحدائق والمناطق العامة”. وأوضحت مرام، أنها لم تستطيع شراء ملابس العيد لأطفالها الإثنين، أو تخرجهم من دوامة الحزن المحيطة بهم منذ موت والدهم واختهم لين ذو الستة سنوات، كما لم يكن بمقدورها أن تصنع لهم أي نوع من أنواع الحلوى تسعدهم فيها كبقية الأطفال الذين ينتظرون هذا اليوم بفارغ الصبر لإشهار فرحتهم وسعادتهم، إذ لم يكن بوسعها الاحتفاء كما كانت تفعل دائماً وفي كل سنة.
ليست الأسعار وحدها من تسبب بقرار عائلات الاستغناء عن صناعة الحلوى وتأمين متطلبات أبنائهم، بل افتقاد الفرح والحزن المخيّم على ضحايا الزلزال ممن فقدوا أفراداً من ذويهم أو منازلهم واضطروا للنزوح عنها، وعلى الرغم من ذلك أصرت بعض العوائل على صناعة الحلوى وكعك العيد حتى لو كان بكميات قليلة وليوم واحد فقط، بغية اظهار بهجة العيد وإدخال الفرح في نفوس الأطفال.
“بصنف واحد من الحلوى وبكميات قليلة سنعيش عيدنا” هذا القرار النهائي اتخذه إبراهيم أبو محمد الذي تهدم منزله وفقد كل محتوياته في الزلزال قبل أن تصبح الخيمة منزل جديد له ولعائلته، استعارت أم محمد فرناً وعملت على تحضير المعمول بعد أن قام زوجها بتأمين ما يلزم في صناعته من السلل الإغاثية التي وزعت على المنكوبين في المخيمات، وشراء ما تبقى من السوق.
تحدث أبو محمد لمنصة “تارجيت” عن طقس صناعة الكعك المحفورة بذاكرته من الأعياد الماضية، وأنه حاول استعادة بعض الطقوس من خلال لمة الجيران والأطفال لإدخال شيء من الفرح في حياتهم، لا سيما بعد مرور أشهر على الزلزال وتداعياته التي تركت آثارها على حيات آلاف العائلات وأطفالهم، ويجمل رب الأسرة المؤلفة من ستة أفراد طقوسه وتفاعله مع هذا العيد بالاقتصار على عمل كمية قليلة من المعمول تكفي أسرته وبعض جيرانه المقربين، ولكي لا يحرم أطفاله فرحة العيد وبهجته، قام بشراء ملابس من محلات البالة ليرتدوها علها تجلب لهم شيئا من الفرح، وفق أبو محمد.