بعد ليلة طويلة، عاد “سليمان حسين برمجة” بسيارته التي يعمل عليها في مدينة الاسكندرون بجنوب تركيا، إلى منزله وعائلته الصغيرة المكونة من زوجته “فادية” التي تكون أيضاً ابنة خالته، وولديهما “جان فيدان” و”حسين”، مُتأخراً حتى الساعة الثالثة فجراً، حيث توجه ليرقد للنوم، علّه ينال قسطاً من الراحة، دون أن يدرك أنها الليلة الأخيرة التي سيمضيها هناك.
إذ لم تمر إلا ساعة على عودته، حتى ضرب زلزال مُدمر المنطقة، فجر السادس من فبراير، انطلاقاً من قهرمان مرعش، مُحولاً مدناً مُشيدة لأخرى منكوبة، لم تشبهها من قبل.
جمعهما الحُب والموت
تزوج “سليمان حسين برمجة” و”فادية فياض جاسم” في 18 آذار العام 2008، (الذي سيصادف أربعينية رحيلهم معاً)، بعد أن جمعهما الحب، وانجبا ابنتهما “جان فيدان\14 عاماً”، وابنهما “حسين\11 عاماً”.
ظروف الحرب السورية، دفعت العائلة نهاية العام 2012، للتوجه إلى تركيا، حيث ولد هناك الأبن “حسين”، مع إعاقة جسدية (شلل نصفي سفلي)، فأجريت له عملية بعد ساعتين فقط من ولادته، نتيجة وجود ماء في رأسه (استسقاء دماغي)، وتم تركيب “خرطوم\شانت” في دماغه، وعقبها بعشرين يوماً، خضع الطفل لجراحة ثانية لإزالة كتلة على العمود الفقري.
ولادة “حسين” مع جملة المشكلات الصحية، كبّلت عائلته بالإقامة في تركيا، حيث تتوفر الخدمات الطبية بشكل أفضل مما هو متوفر في سوريا، بالذات بعد الحرب، وتوجهوا لاحقاً للإقامة في مدينة الإسكندرون، حيث عمل “سليمان” في مجال البناء، ثم القيادة، إلى أن تمكن من شراء سيارة بالشراكة مع شخص آخر، والعمل عليها، وعقبها، تحديداً قبل عامين، تكلل عمل “سليمان” بتمكنه من اقتناء سيارته الخاصة للعمل عليها دون شريك.
وبسبب وضع ابنه حسين الصحي، استأجر “سليمان” بيتاً أرضياً، ليسهل على زوجته “فادية” إخراج ابنهما، عندما لا يكون في المنزل، وأيضاً كان المنزل قريباً من مشفى، حيث كانت الزيارات إليها أمراً دورياً مُعتاداً بحكم وضع “حسين” الصحي، وقد حاول “سليمان” أن يقدم أوراق ابنه للمنظمات العاملة في تركيا، ومنها الأمم المتحدة، بغية منحه فرصة إعادة توطين في بلد يضمن لـ”حسين” العلاج، لكن جهوده باءت بالفشل.
شخصية “سليمان” المحبوبة
تميز “سليمان” بمهارته في كل المهن التي عمل فيها، ومنها الخياطة، كما تعددت مواقع عمله ومنها في دمشق، وأيضاً عمل في التجارة، وقد جذبت شخصيته المحبوبة الناس لحوله.
كان ينوي “سليمان” العودة إلى قريته “كفر صفرة”، منذ أكثر من عام ونصف، لكن وضع ابنه “حسين” قيّد خياراته، واضطره للبقاء في الإسكندرون، رغم أن الأبن أيضاً كان يملك ذات الرغبة بالعودة لقريته، التي لم يراها من قبل.
أحد أفراد عائلة “سليمان” تحدث لـ”منصة تارجيت” حوله، فقال: “لم يكن أحد في الإسكندرون من كُرد عفرين أو كُرد تركيا أو العرب السوريين، إلا ويعرف سليمان، حيث كان يلقبه الأتراك بـ(سليمان آبيه)، لكونه كان خدوماً بشدة لكل من يقصد بابه، وبالأخص أهالي عفرين، فأي شخص مريض يتوجه لهناك، بمجرد أن يتصل به، كان سليمان يلبيه بالإقامة والضيافة والمساعدة، لكونه يملك علاقات واسعة في المدينة، بحكم إقامته الطويلة فيها، وهو ما كان يضعه في خدمة أهالي منطقته دون مُقابل”.
مُتابعاً: “لم يكن يسمح لأحد من عفرين، بأن يستأجر غرفة في فندق بالاسكندورن، ويصر عليهم للإقامة لديه، وبعد وفاة سليمان، زار العديد من هؤلاء منزل ذويه في كفر صفرة، وتحدثوا عن كرمه وقضائه لحوائجهم، ورأينا العديد منهم يبكون ويقولون إن الخدمات التي وفرها لنا لم يوفرها لنا أبناءناً”.
مُردفاً: “قبل الزلزال بساعة، اتصلت مع سليمان، عائلة لديها فرد مريض، فقد دوائه ولم يتمكنوا من إيجاده، طالبين منه مساعدتهم، ليُلبي الدعوة، ويتوجه بسيارته بحثاً عن صيدلية مناوبة، إلى أن تمكن من تأمين الدواء وإيصاله للمحتاج، ويعود في الساعة الثالثة من ليل يوم الزلزال، أي قبل أن يضرب الزلزال المنطقة بساعة تقريباً”.
وقال القريب لـ”تارجيت”، أنه لدى مرور الاتراك من شارع “سليمان” وعلمهم بإنه مفقود بين الأنقاض، كانوا يزرفون الدموع حزناً عليه، وأيضاً العرب السوريون، وكذلك الكُرد من عفرين، نتيجة الخدمات التي قدمها لهم في حياته”، إذ كان البناء مؤلفاً من خمس طوابق، انهار منه الطابقان الأرضي حيث منزل “سليمان”، والأول، بينما هبطت الطوابق الثلاث الأعلى عليهما دون انهيارها، لينجوا قاطنوها.
قلب الأم دليلها
بعد أن تأكدت عائلة والد سليمان في قرية “كفر صفرة”، ومركز عفرين، بأن سلامة جميع أفرادها، بقيت “أم سليمان” في شك، وطالبت أخوة “سليمان” بالتأكد من سلامته، قائلةً إن “صورة سليمان المُعلقة في غرفتها سقطت مع الزلزال وانكسرت”، وهو ما بدى لها بأنه علامة على أن ولدها قد أصابه مكروه، ويكون قلبها دليلها إلى ذلك.
وبعد ساعات من الزلزال، أي في صبيحة اليوم التالي، تمكن أحد أخوة “سليمان” من الاتصال مع صديق له يُقيم في الإسكندرون، والذي أكد بدوره أن منزل “سليمان” قد انهار، دون حسمه لوجود عائلة “سليمان” تحت الأنقاض أو تمكنها من الفرار، بيد أن وجود سيارة “سليمان” في الشارع، أعطى إشارة إلى حصول الأمر الجلل.
استمرت الأمور على تلك الحال، حتى اليوم الرابع، عندما بدأت فرق الإنقاذ التركية بالعمل على رفع الأنقاض، وحينها قال صديق لـ”سليمان” أن الأخير وابنه “حسين” موجودان في مدخل البناء، مُستدلاً على ذلك من تردد (قطة) كان يمتلكها “حسين” إلى بقعة مُحددة من البناء، منذ اليوم الأول للزلزال.
وبالضبط في ذلك المكان، حفرت فرق الإنقاذ لتجد كل من “حسين” وابيه “سليمان” عالقين ومتوفيين تحت الانقاض، بينما وجدت الأم ابنتها وهنّ ممسكتان بأيدي بعضهما عند مدخل البيت، حيث أخرجتا عند الساعة السابعة مساءً.
عقبها بعدة ساعات، تم إخراج جثامين سليمان وابنه حسين، ليتلقى شقيق “سليمان” في قرية “كفر صفرة” اتصالاً يشرح الأمر، ورغم مُحاولته إخفاء النبأ الحزين، بدأت “أم سليمان” بالنواح والعويل، رغم أنها لم تكن تعلم بمصير ولدها بعد، ما شكل صدمة للحاضرين.
نقلت الجثامين في صبيحة اليوم التالي (السادس للزلزال)، عبر “معبر حمام” الفاصل بين تركيا وعفرين، إلى قريته “كفر صفرة”، حيث وصف القريب المشهد لـ”تارجيت” فقال: “توجهت نحو 20 سيارة إلى المعبر لاستقبال الجثامين، وكان الموكب كموكب زفاف، بأعداد غفيرة من المشاركين، واحضرت الجثامين إلى منزل عائلة سليمان، وتُركت هناك لنحو ساعة، ليبكيهم ويرثيهم المُحبون، قبل أن ينقلوا لمقبرة واحدة جمعتهم في مزار الشيخ محمد أعلى قريته (كفر صفرة)”.
ليُحقق الزلزال المُدمر لـ”سليمان” وابنه “حسين”، رغبتهما الجامحة بالعودة إلى “كفر صفرة” وجنديرس، ومن خلفهما عفرين، لكنها عودة لم تكن تتمناها حكماً لا القرية، ولا جنديرس، ذات الجراح المفتوحة منذ العام 2018.