عند الساعة الرابعة وسبعة عشر دقيقة من فجر السادس من فبراير/شباط 2023 الذي صادف يوم الإثنين، صحوت على صراخ زوجتي المرتجف وهي تستنهضني من نومي “قوم في أصوات غريبه وهزه أرضيه” الذي لم يمضي عليه سوى ساعتان وأقل من نصف الساعة، وبين يديها تحتضن طفلنا ليث ذو الثلاثة أشهر وإلى جانبها تقف خديجة ابنة الأربعة أعوام. في اللحظات الأولى من صحوتي اختلطت الأصوات الغريبة على مسمعي تارة اعتقدت أنها أصوات ناجمة عن قصف وهدير طائرات حربية تحلق قريبة من الأرض، وتارةً أخرى ظننت أنه برقٌ ورعد كثيف كون المنطقة كانت تتعرض في تلك اللحظات المرعبة لعاصفة مطرية شديدة.
حين وقفت على أقدامي بدأ المنزل يهتز بنا بشدة ويتأرجح باتجاهات عديدة مقترباً من السقوط فوقنا، عرفت حينها أن زلزال عنيف يضرب المنطقة وعلينا الخروج إلى مكان آمن على الفور، احتضنت خديجتي المدللة التي بدأت تبكي بشدة من هول المشهد وركضت برفقة زوجتي ومولودنا الجديد إلى مدخل البناء المؤلف من طابقين دون أن نأخذ شيئاً من أغراضنا حتى الضرورية منها، الأمر الذي أجبرنا على البقاء بالقرب من الدرج، الذي صادفت عنده أخوالي وعائلاتهم يلتفون حوله آخذين منه درعاً واقياً، لأن الأجواء كانت شديدة البرودة والأمطار تتساقط بكثافة في الخارج.
بعد ثوانٍ معدودة، وحين توقفت الأرض عن الاهتزاز وهدأت تلك الأصوات الغريبة التي لم أسمعها طوال عمري الذي يكاد أن يتجاوز واحد وثلاثون عاماً، عدتُ إلى المنزل بهدف الحصول على أغطية يلتفون فيها صغاري تقيهم من البرد، وحين وصلت إلى الداخل بدأ المنزل يهتز من جديد وعادت الأصوات ذاتها لكن بوتيرة أخف، أمسكت بجاكيت خديجة الأسود واللحاف الناعم الخاص بـ ليث على الفور وانسحبت مسرعاً إلى الخارج، في اللحظات ذاتها سمعت صوت ضخم يشبه الانفجار الناجم عن قصف، للحظة ظننت أن صاروخاً حربياً سقط بجوار التجمع السكني المشيد على أرض صخرية بالقرب من مدينة سلقين بريف إدلب شمال غرب سوريا، وحين خرجنا للبحث عن مصدر الصوت اتضح لنا أن الشرفة المحيطة بمنزلي سقطت وارتطمت بالجدران المشبكة ببعضها البعض على طول وعرض مساحة البناء الذي يضم خمسة شقق سكنية، دون أن تلحق الأذى بأحد.
انتهى الزلزال المدمر “لكن لم تهدأ الهزات الارتدادية حتى يومنا هذا” واشتدت العاصفة حين ذاك وبدأ الانترنت يلفظ أنفاسه الأخيرة ضمن المنطقة التي أسكنها، في وقت تقطعت معظم خطوط الاتصالات والانترنت الأرضي والفضائي عن عدة مناطق من التي أعلنت منكوبة بشكل كامل بعد أن تكشف هول المأساة والفاجعة داخلها، كمدن سلقين وجنديرس والأتارب وحارم وعزمارين وبسنيا، الواقعات في ريفي إدلب وحلب. بعد نحو ساعتين من حدوث الزلزال بدأت الرسائل تتوافد بالجملة إلى جهازي المحمول عبر تطبيق واتساب، إذ كانت الرسالة الأولى من أحد أقربائي أبلغني فيها أن ابن عمنا عمر أبوهمام وزوجته وأولاده البالغ عددهم سبعة أشخاص، يمكثون تحت أنقاض بناء مؤلف من أربعة طوابق وأهالي الحي يعملون في البحث عنهم لإنقاذهم “حيث تمت عملية انتشالهم جثث هامدة بعد جهود فردية دامت خمسة عشر ساعة متواصلة”، فيما كانت الرسالة الثانية أن زميلنا الصحافي عمار الأسود وزوجته قد توفوا تحت أنقاض منزلهم إلى جانب إخوته، فيما كانت الرسائل المتبقية نداءات استغاثة ومناشدات من عائلات بقيت دون مأوى يؤويهم.
حين هدأت الأمطار قليلاً أمنتُ عائلتي الصغيرة عند أقربائي واتجهت إلى مركز مدينة سلقين التي وصل عدد قتلى الزلزال فيها إلى ألف شخص أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، بهدف المساعدة ورصد بعض المشاهد المؤلمة التي ستبقى محفورة في أذهان الأهالي حتى الموت، لكني لم أتخيل حينها أن أرى الكم الهائل من ذلك الخراب والدمار، ناهيك عن أصوات الأنين التي أربكتني ومنعتني من أداء مهامي التي خرجت من أجلها، والبرد الذي كان يفتك بالعالقين تحت الأنقاض التي قتلت معظمهم، وذلك بعد أن فشلت فرق الإنقاذ المحلية بانتشالهم بسبب عدم توفر معدات خاصة بالزلازل في كافة المدن والبلدات المتضررة في شمال غرب سوريا.
مضى سبعة وخمسون يوماً على كارثة الزلزال، وما زالت طفلتي خديجة تربكني منتصف الليالي حين تصحوا خائفة مرتجفة مع حرارة جسدية مرتفعة بسبب المنامات التي تكاد لا تفارقها منذ أن عاشت معنا تفاصيل ذاك اليوم الذي أنهى الحياة عند الكثير من السوريين، سبعة وخمسون يوماً وما زالت أصوات الأنين والصراخ الذي سمعته من المحاصرين بين ركام منازلهم في سلقين، وأرمناز، وبسنيا وحارم، عالقة في ذاكرتي “وستبقى” لأن من سمع ليس كمن رأى.