أحمد قطمة
تعيش سوريا واقعاً صحياً متردياً، انعكس على مختلف جوانب الحياة الصحية، من انتشار للأوبئة إلى ارتفاع أسعار الأدوية وأجور العلاج والطبابة، بجانب تقلص أعداد العاملين في القطاع الصحي ومعامل انتاج الدواء.
حيث تؤكد التقارير الأممية تلك المعطيات، فيما يدفع المواطن السوري ثمناً باهظاً لتلقي العلاج إن توفر، خاصة إن القطاع الصحي كان محط انتقاد قبل اندلاع الحراك الشعبي في سوريا مارس العام 2011، إذ لطالما كانت المستشفيات الحكومية مثار شكوى وانتقاد، لانتشار الفوضى والمحسوبية والإهمال، وهو ما تضاعف في ظل الأزمة المستعرة التي لا تزال تعيشها البلاد.
انتشار الكوليرا
ففي منتصف يناير الجاري، أكد تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، وصول مجموع الوفيات بمرض الكوليرا في سوريا، إلى 100 حالة منذ الإعلان عن تفشّيه في البلاد، مشيراً إلى أنه “تم الإبلاغ عن وجود 77 ألف و561 حالة مشتبه بها في سوريا، بما في ذلك 100 حالة وفاة، منذ الإعلان عن تفشي المرض في الـ25 من آب الماضي وحتى السابع من الشهر الجاري”.
فيما بلغ إجمالي الحالات التراكمية، التي جرى الإبلاغ عنها، 15890 حالة جديدة مشتبه بها منذ الـ18 من كانون الأول الماضي، بينما تقلص مجموع الحالات المشتبه فيها المبلغ عنها “بشكل كبير” في بعض المناطق، حسب التقرير، فيما وصل مجموع الحالات الإيجابية للإصابة بالمرض إلى 1893 حالة.
وجاء في التقرير، تسجيل 6561 حالة مشتبه بها، وسبع حالات وفاة في مخيمات النازحين بشمال شرقي وشمال غربي سوريا، وأيضاً دونت محافظات “إدلب (21033 حالة مشتبه بها)، ودير الزور (20671 حالة مشتبه بها)، وحلب (16877 حالة مشتبه بها)، والرقة (15284 حالة مشتبه بها)”.
نزيف للقوى البشرية
وبجانب انتشار الأوبئة، جاء نزيف العقول والقوى البشرية من سوريا ليزيد من طين المرضى بلّة، إذ ذكر رئيس نقابة عمال الصحة في دمشق، سامي حامد، خلال مؤتمر للنقابة في التاسع عشر من يناير، أن انتظار المريض لتسلم تقارير الأشعة ستجاوز 25 يوماً بعد إجراء التصوير، ما يعني تأخير تشخيص الحالة من قبل الطبيب المعالج، إلى جانب اضطرار بعض المرضى لأخذ “CD” إلى مستشفى خاص لكتابة التقرير.
ونقلت صحيفة “الوطن” الصادرة من دمشق، عن رئيس النقابة أن التأخير عبر مبرر، ويسبب فقدان الصورة الشعاعية أو الطبقي المحوري أو الرنين المغناطيسي قيمتها نتيجة تأخر منح التقرير، فيما حذّرت رئيسة اللجنة النقابية في مستشفى الأطفال، فيروز محمد، خلال المؤتمر، من “النزيف الحاد” في القوى البشرية، بما يؤثر على قدرة المستشفى على القيام بمهامه، باعتباره أحد المستشفيات التخصصية، لافتةً إلى وجود استقالات في جهاز التمريض والفنيين في المستشفى بأعداد كبيرة، دون تعويض هذه الكوادر.
وفي السياق ذاته، قال “نقيب الأطباء” في سوريا، غسان فندي: “إن دراسة رفع سن التقاعد للأطباء، جاء لتغطية النقص الحاصل في الكادر الطبي، سيّما في المناطق الشرقية والجنوبية”، وأضاف فندي في مقابلة مع برنامج “المختار” الذي يبث عبر إذاعة “المدينة اف ام” و”تلفزيون الخبر”، إن “شرط التمديد أن يكون لممارسة العمل الطبي ولا يشمل العمل الإداري، مبيناً أنه “من المقترح أن يتم رفعه ما بين 65-70 عاماً، غير أن سن 65 هو الأنسب”.
وأشار إلى أن “رفع سن التقاعد أحد الحلول لتغطية النقص الحاصل في الكادر الطبي، بالحفاظ على أصحاب الخبرة، بالإضافة إلى استقطاب أطباء جدد من خلال مفاضلات وزارتي الصحة والتعليم العالي”، علماً أنّ الطبيب يحال إلى سن التقاعد في سوريا، عندما يبلغ من العمر 60 سنة، وفي أخر إحصائية أعلنت عنها “النقابة” أن عدد الأطباء المتقاعدين والمتوفين يقارب 5 آلاف طبيب، والعدد الكلي للأطباء المنتسبين للنقابة بلغ 27 ألف طبيب.
معامل للأدوية توصد أبوابها
ولم يقتصر الأمر على نزيف القوى البشرية، بل تعداها إلى نزيف انتاج الأدوية، إذ أغلق 15 معملاً للأدوية أبوابه بشكل كامل في مدينة طرطوس ومدينة صافيتا في ريفها الشمالي الشرقي وعدة مناطق أخرى، وذلك بسبب ضغوطات مورست من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام.
حيث أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان في الواحد والعشرين من يناير، بأن النظام فرض على أصحاب المعامل إغلاقها، بعدما رفضوا مشاركة بعض الشخصيات من “عائلة الأسد” بنصيبهم من الأرباح، مضيفاً بأن هناك بينهم من رفض أيضاً دفع نسب مالية من أرباح معاملهم لصالح تلك الشخصيات رغم عدم وجود مبرر قانوني لفرضها عليهم.
وفي هذا الصدد، قررت حكومة دمشق، في الرابع والعشرين من يناير، زيادة جديدة في أسعار الدواء، بسبب إضراب الكثير من مصانع الأدوية في البلاد، بعد ارتفاع قيمة الدولار الأميركي مقابل الليرة، حيث جاء ارتفاع أسعار الأدوية بعد رفع البنك المركزي السوري لسعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة السورية، وهو ما أثر على أسعار انتاج الدواء، إذ تعتمد معامل الأدوية المحلية على المواد المستوردة للتصنيع، وبحسب النشرة الجديدة، تراوحت نسب ارتفاع أسعار الادوية بين 65 و100 بالمئة.
الواقع الصحي بعيون مُختصة
وحول ما سبق، قال الطبيب “بختيار مدرس”، لـ”منصة تارجيت الإعلامية”: “طيلة عقد ونصف تقريباً يعاني الشعب السوري آلام حرب لم تنتهي بعد، وما الذي تخفيه الاقدار؟ لا أحد يعلم!!، وكباقي جوانب الحياة اليومية كان للجانب الصحي حصة من الكوارث”.
متابعاً: “الحروب دمرت البنية التحتية للكثير من المراكز الصحية الهامة في البلاد، ولكن الجانب الأهم كان هجرة الكفاءات الطبية إلى الخارج عقب العقوبات المتتالية وفوبيا المستقبل الغامض وغياب الأمن والاستقرار، مما خلف تدني في الأداء والرعاية الصحية في المدن، وكل هذا أثر بالشكل المباشر على صحة المواطن والرعاية السليمة، ناهيكم عن الغلاء الكارثي وتدني المعاشات”.
كما لفت “مدرس” إلى أنه “في جميع المدن توجد أزمة الكادر الطبي”، مرجعاً السبب “للهجرة المستمرة وتدني المعاشات”، أما بالنسبة للغلاء الدوائي، فهي وفق “مدرس” تعد “أكبر المشاكل، كون جميع الشركات تتعامل بالعملة الأجنبية في البيع والشراء، والليرة السورية فقدت قيمتها مئات المرات، ففي كل قفزة هناك غلاء”.
لكن “مدرس” رأى إنه “قد تعود الأمور إلى نصابها الطبيعي في حال توافر الدعم الصحي من منظمة الصحة العالمية، وتوافد المنظمات وفصل الجانب الصحي عن السياسة وأجندة الدول المستفيدة من استمرارية الحرب في سوريا”.
وعليه، أضحى المواطن السوري الخاسر الوحيد في معضلة متواصلة منذ 12 عاماً، صارت معها حياة الإنسان الأبخس من بين السلع التي يجري المتاجرة بها في سوريا، ليبقى المواطنون ممن لهم أقرباء أو أبناء في خارج البلاد، الناجين شبه الوحيدين، الذين قد يستطيعون مُجاراة نقص القوى البشرية وغلاء الأدوية وانتشار الأوبئة، فيما ذوو الدخل المحدود ممن لا معيل لهم من خارج البلاد، الأكثر عرضة للفتك بهم من قبل الأمراض والغلاء وعجز السلطة في دمشق.