لم يكن الخامنئي يتصور أن يكون مقتل الفتاة الكردية جينا أميني “مهسا” بهذا الثقل ويصبح شرارة لانتفاضة عارمة ترفع شعار إسقاط الخامنئي نفسه الذي تحول الى أكبر التابوات في ايران والاقتراب منه من الكبائر تؤدي بصاحبه الى حبل المشنقة ولكن على عكس تصورات الخامنئي، أشعلت هذه الجريمة موجة واسعة من الاحتجاجات الشعبية في المدن الايرانية والتي انطلقت من المناطق الكردية بوتيرة متصاعدة مع زيادة تصدع أركان النظام الاسلامي الحاكم في البلاد الذي يحاول بشتى الوسائل القمعية إسكات صرخات جموع الناس المنادية بالحرية وإسقاط حكم “الخامنئي”، من خلال شن حملة اعتقالات واسعة طالت حتى الآن نحو 19 ألف شخص وقتل ما يزيد عن 500 آخرين وتنفيذ أحكام الإعدام بحق المحتجين بتهمة “العداء لله”، كل هذا لم ينقص من عزيمة المرأة الايرانية والشباب الذين يقودون شعلة الانتفاضة تحت شعار “المرأة، الحياة، الحرية”.
هذه ليست الانتفاضة الأولى التي تشهدها إيران في السنوات الأخيرة، والتي تعاني أوضاع اقتصادية سيئة وتوجيه موارد البلاد لخدمة تدخلاتها الخارجية في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وأيضاً ممارسة سياسات القمع والإبادة والتهميش بحق القوميات ومعتنقي الأديان الأخرى على أرضها، لكنها تختلف عن سابقاتها التي نادت بتحسين الأوضاع المعيشية وقمعت بقوة السلاح، وتتميز عنها بكسر حاجز الخوف والدعوة إلى الحرية وإسقاط النظام بقيادة الفئة الشابة من المجتمع وبريادة المرأة.
جينا أميني تشعل الثورة
سرعان ما اجتاح الحراك الثوري الذي انطلق من المدن الكردية، جميع أنحاء إيران، ووحد الشعب بمختلف انتماءاته العرقية وشرائحه الاجتماعية تحت شعار “المرأة ، الحياة، الحرية”، على خلاف الحراك السابق التي جرى في عام 2019، الذي لم يوحد الشعوب الكردية والعربية والفارسية والبلوش والأذريين.
وفي هذا السياق، قالت روزرين كمانجر، مسؤولة اللجنة الدبلوماسية في منظومة المرأة الحرة في كردستان إيران، لمنصة تارجيت الاعلامية: “إن هذا الحراك له خصوصيات ميزته عن الانتفاضات والتظاهرات السابقة، ففي الأيام المئة اجتاحت أعمال الاحتجاجات كل إيران وجميع شرائح المجتمع مثل رجال الدين والطلاب والمدرسين والعمال بقيادة المرأة والشبيبة، الذين نادوا بالحرية في الشوارع، وهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها وحدةً وتضامناً على هذا المستوى في إيران بعد ثورة عام 1979”.
وفي معرض حديثها أكدت كمانجر بأن جميع أفراد الشعب وعلى رأسهم الشريحة النسوية أظهرت من خلال هذه الانتفاضة بأنها لن تقبل التعريفات الزائفة لنظام حكم “ولاية الفقيه”، داعيةً إلى تبني مصطلحات جديدة مثل “المرأة، والإدارة، والأخلاق، والسياسة، والنضال، والتضامن من قبل المجتمع نفسه”.
وأربك الحراك الشعبي في إيران، السلطات الحاكمة التي واجهت أصوات الجموع الثائرة بالرصاص الحي وشن حملات اعتقال عشوائية واسعة النطاق وتنفيذ الاعدامات التي أثارت المخاوف الدولية، حيث حذرت منظمة العفو الدولية من خطر تصاعد القمع الدموي ضد المحتجين وسط انقطاع الانترنت المفروض بشكل متعمد، وطالبت العالم بالتحرك السريع لمواجهة العنف الذي يمارسه النظام الايراني لقمع حركة الاحتجاج السلمي مع ارتفاع أعداد الضحايا.
لم تُثن الاجراءات القمعية من عزيمة المحتجين الغاضبين، الذين كسروا حاجز الخوف وحولوا مراسيم تشييع جثامين ضحاياهم الذين سقطوا بنيران القوات الأمنية، إلى حراك منظم مطالبين بإسقاط نظام ولاية الفقيه، وواجهوا جميع سياسات النظام التي حاولت تشتيت شمل الجموع الغفيرة عبر بث النعرات الطائفية والعرقية ووسائل الحرب الخاصة، إلا أن هذه السياسة لم تُسفر عن شيء بل على العكس زادت من التلاحم الشعبي والاجتماعي في وجه القمع والاستبداد للحكم الاسلامي، وحولوا أجسادهم إلى دروع لحماية الفرد والعكس صحيح ليظهروا أن حرية الفرد والمجتمع مرتبطة ببعضها البعض حسب تعبير كمانجر.
وعن استمرار الاحتجاجات واتساع رقعتها في البلاد، أوضحت الناشطة النسوية قائلة: “رغم مرور أكثر من 100 يوم على زيادة ضغط النظام ، إلا أن الانتفاضة ما تزال مستمرة في مدن كردستان إيران وبلوشستان وبعض الأماكن من طهران ومناطق أخرى. بشكل عام يمكننا القول إنه ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر نشهد احتجاجات وإضرابات قوية، وخلال 100 يوم أظهر المجتمع أنه هو صاحب السلطة القرار وسط استمرار الاجراءات القمعية ضد المحتجين وحملة الاعتقالات الواسعة.”
إعدام المحتجين وتخوف كبير على مصير آلاف المعتقلين
في الـ 13 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2022، أصدر القضاء الإيراني أول حكمٍ بالاعدام بحق شخصٍ على خلفية الاحتجاجات الشعبية، وحتى بدايات الشهر التالي بلغ عدد المعتقلين الذين واجهوا الحكم نفسه 11 شخصاً بتهم “الحرابة والإفساد في الأرض”، فيما تم تنفيذ أول حكم إعدام في الـ 8 من شهر ديسمبر/كانون الأول 2022، بحق الشاب محسن شكاري في محاكمة صورية تعتبر الأسرع في تاريخ إيران حاول النظام الحاكم من خلالها توجيه رسائل إلى المحتجين في الداخل والدول الغربية التي أدانت هذا الاعدام ووصفته بعمل مثير للاشمئزاز والجنون. وأعلنت منظمة العفو الدولية أن المجتمع الدولي يجب أن يدعو السلطات الإيرانية والمرشد علي خامنئي على الفور إلى وقف جميع عمليات الإعدام المخطط لها، والتوقف عن استخدام عقوبة الإعدام كأداة للقمع السياسي ضد المتظاهرين، في محاولتهم اليائسة لإنهاء الانتفاضة الشعبية.
بعد خمسة أيام نفذت السلطات الايرانية حكم الإعدام الثاني بحق متظاهر آخر يدعى “مجيد رضا رهناورد” بشكل علني في مدينة مشهد شمال شرق البلاد، بحسب موقع “ميزان أونلاين” التابع للسلطة القضائية الإيرانية، رغم جميع التحذيرات الدولية، ما زاد من غضب الشارع، فيما حذرت منظمات حقوقية بأن العديد من الايرانيين معرضون لخطر الإعدام الوشيك بسبب التظاهرات التي تهز نظام طهران، حيث ذكرت “منظمة العفو الدولية” أن إيران “تستعد لإعدام” ماهان صدر (22 عاماً) بعد شهر واحد فقط من محاكمته “الجائرة للغاية” وإدانته بسحب سكين خلال الاحتجاجات، وهو اتهام نفاه بشدة أمام المحكمة.
من جانبه، ذكر مدير منظمة حقوق الانسان في إيران ومقرها في أوسلو، محمود أمير مقدم، بصدد “ماهان صدر” الذي يواجه حكماً بالاعدام، إنه “مثل جميع السجناء المحكوم عليهم بالإعدام، حُرم من الاتصال بمحاميه أثناء الاستجوابات والإجراءات والمحاكمة الصورية”، وتابع أن “عمليات إعدام المتظاهرين لا يمكن منعها إلا من خلال زيادة التكلفة السياسية على الجمهورية الإسلامية”، داعياً إلى “رد فعل دولي أقوى من أي وقت مضى”، بينماهادي قائمي، المدير التنفيذي لـ”مركز حقوق الإنسان في إيران” ومقره نيويورك، قال: إنه “ما لم تكثّف الحكومات الأجنبية بشكل كبيرالضغط الدبلوماسي والاقتصادي على إيران، فإن العالم يرسل الضوء الأخضر لهذه المذبحة”.
وبحسب المعلومات الرسمية، هناك 506 شهداء، 69 منهم دون سن 18 عامًا، وتم اعتقال حوالي 19 ألف شخص، كما أنه لا يوجد الكثير من المعلومات حول مصير العديد من المعتقلين”.
الاحتجاجات تهز أركان النظام الإيراني
أكدت مسؤولة اللجنة الدبلوماسية في منظومة المرأة الحرة، أن الانتفاضة الشعبية في إيران ستستمر لأن من يقود هذا الحراك الثوري هي القوة النشطة والديناميكية للمجتمع من الفئة الشابة والنساء، موضحةً أنه خلال السنوات الأربعين الماضية حاول نظام “ولاية الفقيه” إظهار الاحتجاجات الشعبية والتظاهرات على أنها أعمال شغب يقوم بها مجموعة أو جزء صغير من المجتمع، فيما حققت هذه الانتفاضة مكتسبات كثيرة أرعب كيان الدولة الإيرانية وهزت أركانها، فقيادة الشعب في هذه المرحلة وأساس سلطتهم هي قضية مهمة لا يمكن نسيانها أبداً.
وتابعت كمانجر في حديثها، أن هناك قضيتان يجب تناولهما بعناية، الأولى: أن المرأة الحرة تسطيع خلق مجتمع حر، وهنا أظهرت المرأة أنها تسعى وراء حريتها ومجتمعها، والثانية: أن الشعب مؤمن بقوته ويستمر بكفاحه في الشوارع بأيدٍ فارغة متسلحاً بالتضامن والوحدة، هاتان النقطتان مهمتان لاستمرار أي انتفاضة، وأوضحت أن “الأهالي في المناطق الكردية وإيران متيقظون، ومن أجل الوصول إلى أهدافهم وهم يكافحون بشكل منظم وجماعي، ويمكن القول بأن هذه الانتفاضة هي من عمل المجتمع كله ولا يمكن لتنظيم أو حزب بمفرده أن يصبغها بطابعه أو يضع بصمته عليها”.
رصاص الأمن الإيراني وتهم العمالة وأحكام الإعدام والقضاء المسيس، باتت أدواة السلطات الايرانية لمواجهة الاحتجاجات الشعبية التي تخطت دائرة المطالب إلى دعوات إسقاط نظام المرشد الأعلى، وتعليقاً على الوضع الأمني قالت كمانجر: شنت الدولة الايرانية هجمات مختلفة في الفترة الأخيرة داخل البلاد، خاصة في كردستان وبلوشستان، حيث أصيب واستشهد عدد كبير من الأشخاص، وخارج الحدود، استهدفوا بشكل مباشر قواعد بعض الأحزاب الكردية التابعة لكردستان إيران، وبشكل دبلوماسي وتزامناً مع هجمات الدولة التركية، قصفوا جبال “أسوس وبنجوين” وبهذه الطريقة استهدفوا التنظيمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وهذا الأمر يدل على أن النظام الإيراني وبأي شكل لايريد إجراء أي تغيير في وضعه، وهو على تنسيق مباشر مع النظام التركي.
دعوات لتوحيد المعارضة السياسية
وكسبت الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت المدن الإيرانية، وسط زيادة إجراءات الأجهزة القمعية التابعة للنظام تعاطفاً دولياً واسعاً، في حين يرى العديد من المراقبين والمحللين أن هذا الحراك الثوري المستمر يواجه تحدياً كبيراً قد يؤدي إلى إخماد جذوته مع مرور الوقت وهو افتقاده إلى قيادة بارزة تقود الجموع الغاضبة لقلب نظام الحكم في البلاد، في الوقت الذي لا تزال فيه المعارضة السياسية تعيش حالة ضعف نتيجة الشرذمة وعدم توحيد صفوفها خلف الانتفاضة الشعبية.
وفي هذا السياق، قالت كمانجر: “إننا كحراك نسوي أجرينا اتصالات ولقاءات مع الأحزاب والتنظيمات الأخرى على مستوى كردستان وإيران. خلال المائة يوماً هذه، تواصلنا مع تنظيمات مختلفة وقمنا بأنشطة مشتركة، للتأكيد على أن مستوى هذا الأنشطة غير كاف مقارنة مع ما يحدث في إيران، وأصدرنا بيانات عدة حول ذلك واتخذنا خطوات في هذا الخصوص”.
وأردفت بالقول: “في هذا التوقيت المهم، قررت منظومة المرأة KJAR وجمعية الحرية والديمقراطية في كردستان ايران KODAR، وحزب الحياة الحرة الكردستاني PJAK، توسيع جبهة الديمقراطية لشعوب إيران، ودعوة جميع شرائح الشعب والمؤسسات والتنظيمات العاملة من أجل حرية المجتمع للتضامن وتوحيد صفوفها، الآن هناك ألم مشترك جمع كافة شعوب إيران ضد النظام القائم، ومن أجل ذلك فإن الواجب الرئيسي للمعارضة الكردية والايرانية هو رعاية مصالح الشعوب، ونحن نقوم بواجبنا هذا”.
هل سيسقط النظام؟
يراهن الكثير من النشطاء والمحللين الايرانيين داخل البلاد وخارجها على أن هذا الحراك الثوري سيبلغ أهدافه في قلب النظام الحاكم، لما اتسم به من ديمومة وانخراط كافة شرائح المجتمع فيه واتساع رقعته، والدعوة إلى الحرية والخلاص من حكم ولاية الفقيه، ما أربك السلطات الأمنية التي فشلت في احتواء الغضب الشعبي وتحويل حراكها إلى مجرد أعمال شغب لمواجهتها بالأدوات القمعية.
وأكدت الناشطة النسوية جمانكر، أن حماية المكتسبات في هذه المرحلة أمر مهم جداً، فالشعب قرر أن يناضل بشكل كبير من أجل حياة حرة، وأشارت في حديثها أنه من الشعارات إلى حراك، الشعب الايراني سائر على طريق بناء الأمل وحياة حرة، وقالت: مطلب الشعب منذ اليوم الأول وحتى الآن واضح للعيان، والسلطات الإيرانية أيضاً تعلم جيداً أن جميع شرائح المجتمع الايراني قد اتخذت قرارها ولن تتراجع عنه.