كان مشهد تخلّي معظم حلفاء دمشق عنها (كدول الخليج، تركيا وأوروبا)، إبّان الاحتجاجات الشعبية ربيع 2011، بمثابة فرصةٍ ذهبية لإيران من أجل جني ثمار الصراع السوري بما يخدم مصالحها الإقليمية والدولية، فالتواجد العسكري للميلشيات المحلية والأجنبية التي تدعمها في سوريا، شكّل عاملاً مهماً لانخراط طهران في المفاوضات مع المعارضة ودمشق، وبالتالي مع حلفائهما الإقليميين والدوليين.
هذا الدور الذي أدّته إيران، ساهم أيضاً في تثبيت وجودها ضمن عمليات التفاوض الدولية واستغلال ذلك في خلق فرص الحوار مع المجتمع الدولي، وبالتالي المساهمة بشكلٍ أو بآخر في اقتناص اتفاقٍ نووي، وفق بنودٍ لا تتعارض مع شروطها.
لذلك تستميت في الدفاع عن وجودها في سوريا، عبر توظيف الأذرع الولائية وإقحامها في الحرب السورية والإقليمية، وصولاً إلى فرض شروطٍ تفاوضية حتى في الملفات التي رحلت “الملف الصاروخي والباليستي” الذي بات يرهق المجتمع الدولي.
فالاستحواذ على القرار السوري من جهة، وتضمين مصالح طهران في أية تسوية من شأنها إنهاء الصراع الذي اقترب من دخول عامه الثالث عشر من جهة ثانية، والرغبة في السيطرة على أهم الطرق البرية في سوريا وتأمين الوصول للبحر المتوسط وضمان وصول أسلحتها إلى حزب الله اللبناني لتعزيز امتلاك خطوط المواجهة مع إسرائيل من جهة ثالثة، شكّلت في مجموعها رغبةً إيرانية فاضحة للتدخل في الحرب السورية.
يبدو أن “وصول إيران إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، في حال نجحت مخططاتها، سيساهم بشكلٍ كبير في ممارسة المزيد من الضغط على دول الاتحاد الأوروبي وإرضاخها لشروط العودة إلى المفاوضات، بما يتجاوز مسألة رفع تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 80%، والذي سيتيح لها الاقتراب من إنتاج القنبلة النووية”، يقول الباحث في الشأن الإيراني مصطفى النعيمي لـ تارجيت، ويعتقد أن طهران “لن تفرط باستثمار تلك المنجزات”.
استماتة الدفاع عن دمشق
لدى إيران 131 موقعاً عسكرياً في سوريا، تتركز في 10 محافظات ، معظمها في درعا ودمشق وريفها، وحلب ودير الزور، بحسب بحثٍ لمركز الجسور السوري، هذا التواجد الموزّع على كامل جغرافية البلاد تقريباً، تعتبره طهران ضماناً لتنفيذ وحماية مشروعها الذي من المحتمل أن يتلقّى ضربةً قوية في حال سقوط نظام الأسد، وهو ما لم تسمح به إيران حتى الآن، “فالنظامان، الإيراني والسوري، مرتبطان بعضهما ببعض وفق أسسٍ وجودية ومشاركتهما في إدارة الأزمات، توحي بأن فصل أحدهما عن الآخر سيحكم على مشروعهما بالزوال، وينتهي النظامان في سوريا وطهران أيضاً، مروراً بالأذرع الولائية”، يقول النعيمي الباحث المشارك في المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية “أفايب”.
لذلك كثّفت طهران أدوات المساندة والانخراط العسكري النوعي على مدار 11 عاماً من الحرب السورية، كدعم ميلشياتٍ أجنبية وتأسيس أخرى محلية وتدريبها وتمويلها، إضافةً إلى إرسال القادة والخبراء والمستشارين الأمنيين والعسكريين إلى سوريا، ورفدها بوحدات من الحرس الثوري، بهدف تحقيق تفوقٍ ميدانيٍ لدمشق على حساب خصومها.
استنزاف القوة
رغم ما حققته إيران في سوريا من تفوّقٍ عسكري وسياسي يخدم مصالحها الإقليمية والدولية، إلا أن الأزمات الداخلية المتتالية التي تنخر جسد الجمهورية الإسلامية ستمضي بها إلى التهلكة، ولو بعد حين، فالتظاهرات الشعبية المستمرة منذ الـ 16 سبتمبر أيلول 2022 في معظم أرجاء البلاد، احتجاجاً على وفاة شابةٍ كردية في أحد معتقلات شرطة “الأخلاق” الإيرانية، ستُربك طهران وتجبرها على التركيز أكثر في إنهاء العصيان الداخلي، وبالتالي إرخاء قبضتها عن مشاريعها الخارجية، خاصةً في سوريا.
فالأزمة الداخلية التي تمرُّ بها إيران من ناحية، وملف الحرب الروسية الأوكرانية والدعم الغربي للأخيرة من ناحية ثانية، صارا يؤثّران بشكلٍ كبير على وجودها في سوريا، “إذ إن إضعاف الخصوم سيؤثّر بشكلٍ حتمي على قدرة طهران في تحركاتها التي باتت متعثّرة في الجغرافية السورية، فالدعم الغربي المفتوح للقوات الأوكرانية، وأزمة الجيش الروسي في تلك الحرب، ستكون له آثار سلبية على التحالف الموجود بين موسكو وطهران اللتين تحاولان تجميل الموقف بالحفاظ على المكتسبات التي حققاها على مدار 11 عاماً من تدخلهما في سوريا وفشلهما الذريع في عملية إدارة الموقف”، يؤكّد النعيمي.
ويقول لـ تارجيت: “أعتقد أن إيران خسرت كثيراً في المجالين العسكري والاقتصادي، فما يحصل من تظاهرات داخل إيران؛ هو نتيجة طبيعية لحجم العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على نظام طهران، ردّاً على سلوكياتها العدائية تجاه شعوب المنطقة العربية والغربية في آنٍ معاً”.
ورغم استخدام إيران ميلشياتها الموزعة في المنطقة العربية كمصدّاتٍ عسكرية للضغط على المجتمع الدولي، بهدف رفع مستوى سقف المفاوضات النووية، إلا أنه لا يوجد قرار دولي للتدخل عسكرياً على غرار القرار الذي اتُّخِذ لضرب داعش، “لم يُتَّخذ أي إجراء تجاه مكافحة النفوذ الإيراني في الدول العربية، لا سيما أن الحرس الثوري وفيلق القدس الإيراني موصوفان كمنظمتين إرهابيتين، وتعانيان من عقوبات كبيرة فُرِضت ولا تزال تفرض عليهما، للحد من نشاطهما وتدخلهما في الأزمات الإقليمية والدولية”، يقول النعيمي.
ويضيف “إرهاب إيران لا يقل عن تهديد داعش أو ربما أزيد، بسبب تمتعها بنفوذ كبير من خلال إنشاء أجسام عسكرية في الدول العربية (حزب الله اللبناني- حزب الله العراقي- الدفاع الوطني السوري- أنصار الله الحوثية)، كلها أدوات باتت تهدد خطوط الملاحة البحرية وانسيابية نقل النفط العربي لدول العالم، إضافة إلى التحرش المستمر بناقلات النفط الدولية وخطفها في مياه الخليج العربي، والتحرش بالقطع البحرية الأميركية والاستعراضات والمناورات التي يجريها الحرس الثوري، كلها باتت مقلقة للعالم بأسره، ويتطلّب جهداً مضاعفاً لوقف هذا التدخل الميلشياوي”.