شاحنتان محمّلتان بمادة البرغل، هما الوحيدتان اللتان دخلتا مناطق الحكومة السورية، قادمتين من مناطق “الجيش الوطني السوري” عبر معبر أبو الزندين، جنوب غربي مدينة الباب شمالي البلاد، تقابلها في الجانب الآخر قرية الشماوية.
هي فقط ثلاث ساعات أو ربما أزيد، فُتِح خلالها المعبر المغلق بقرارٍ من الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني منذ عام 2020، ليقتصر استخدامه مذ ذلك الحين على تبادل الأسرى بين الحكومة السورية ومعارضيها.
ففي الـ 21 من سبتمبر أيلول 2022، أعادت فرقة “السلطان مراد” التابعة “للجيش الوطني” فتح المعبر المذكور لسويعات، تزامناً مع إعلان قيادة “الجيش الوطني” تشكيل “مجلسٍ ثوريٍ موحّد”، بهدف توحيد القيادة العسكرية، لرأب الصدع الحاصل بين فصائله.
ضوءٌ أخضر إجباري:
قرارٌ ربما يكشف عن خيوط لعبةٍ سياسية جديدة تلعبها الأطراف الدولية التي تدير الملف السوري، في مقدمتها تركيا التي يبدو أن لها اليد الطولى في مسألة فتح المعبر مجدداً، لكن إغلاقه بهذه السرعة، ربما لأن “المعطيات السياسية لم تنضج حتى هذه الساعة بين الفرقاء، دمشق وأنقرة من جهة، وموسكو وطهران من جهة أخرى، لأن لكلٍّ منهم أهدافا ومطالب معينة، وبالتالي لم يتوصّل الجميع إلى اتفاقٍ على إجراءٍ معين”، بحسب المحلل العسكري العقيد الركن مصطفى الفرحات.
يقول لـ تارجيت:
بدون ضوءٍ أخضر تركي، لا يمكن للجيش الوطني أن يفتح المعبر، لأنه يتماهى مع السياسة التركية وينسجم معها تماماً، وبالتالي لا يمكن لقادة هذا الجيش القيام بأي شيء، دون إيعازٍ من أنقرة.
عقابٌ جماعي:
تركيا التي احتضنت منذ بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا ربيع 2011، مئات الناشطين السوريين، كذلك المنشقين العسكريين وتدريبهم ودعمهم مالياً وتزويدهم بالأسلحة والعتاد، قبل أن تفتح أبوابها لأكثر من ثلاثة ملايين سوري، وفق آخر إحصائية لإدارة الهجرة التركية لعام 2022.
يبدو أنها اليوم عازمة على إنهاء كل شيء وإخراج السوريين من حساباتها صفر اليدين، خدمةً لمصالحها الخارجية قبل الداخلية، “فبعد 10 أيام على القمة الثلاثية في طهران والتي جمعت الضامنين الثلاثة، تركيا وروسيا وإيران، كانت هناك قمة ثنائية في موسكو بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين الذي طلب حينها من أردوغان التطبيع مع الأسد، أو إيجاد آلية للتقرب منه، مثل فتح معابر وآلية لخطوط تواصل سياسي، وهذا ما كشف عنه الرئيس التركي بالفعل عقب عودته من موسكو”، وفق الفرحات.
وأضاف:
كان هناك تواصل أمني بين علي مملوك رئيس جهاز الاستخبارات السورية وهاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركية، ويبدو أن هذا اللقاء كان يخطط لما هو أبعد من ذلك، ربما للقاءاتٍ على مستوى الوزراء وفيما بعد على مستوى الرؤساء، حتى أن الرئيس التركي صرّح بإمكانية لقاء الرئيس السوري بشار الأسد.
ثقةٌ روسية وخضوعٌ تركي:
رغم أن الكثير من المراقبين يعتبرون أن تصريحات أردوغان هي بمثابة خطوة تكتيكية، تتماشى مع الدور الروسي، إلا أنها قد تشكّل نقلةً نوعية في التعاطي مع الملف السوري، إرضاءً لموسكو التي باتت ترسل إشارات واضحة تعكس رضاها عن أنقرة، خاصةً بعد دورها الوسيط في صفقة القمح، مقابل رغبة الأخيرة في عدم الإفراط بالثقة الروسية بها.
رغبةٌ قد تدفع تركيا لإرضاء روسيا في أيِّ ملف، خاصةً الملف السوري ومسألة التطبيع مع الأسد، حتى لو كان عن طريق فتح معابر برية مع دمشق، لذلك فإن “فتح معبر أبو الزندين، جاء إرضاءً لروسيا قبل دمشق، فالأسد لم يعد صاحب قرار، لأن من يدير الدفة حقيقة هي روسيا وإيران وتركيا، والتواصل مستمر بين هذه الأطراف حول سوريا، على اعتبارهم الفرقاء الأهم بالنسبة للقضية السورية”. بحسب العقيد الركن، الذي يؤكّد لـ تارجيت أن “هناك عدم توافق على فتح المعابر، بسبب وجود رفضٍ شعبي من جانبي الموالاة والمعارضة، كذلك خضوع الموضوع لتجاذباتٍ سياسية”.
الاستدارة التركية نحو دمشق، ستكون بمثابة الضربة القاصمة التي من الممكن أن تنهي جميع التشكيلات العسكرية التي تتلقى الدعم المالي والعسكري من أنقرة، في مقدمتها فصائل “الجيش الوطني”.
فإن تحققت المصالحة المطلقة بين الجانبين، فسيكون أول شروط دمشق لقبول ذلك، هو كف يد تركيا عن دعم من خرجوا ضد الأسد، وهو ما ستوافق عليه تركيا حتماً بضغطٍ روسي، حينها “لن يكون أمام الجيش الوطني سوى خوض حربٍ مصيرية، إما الموت أو النصر، في حال لم تكن هناك عودة وفق آليات حل سياسي معين”، بحسب الفرحات.
تطبيعٌ اقتصادي قبل السياسي:
معبران تجاريان شمالي سوريا يصلان المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق بالمناطق التابعة لها، الأول معبر أبو الزندين جنوب غربي مدينة الباب الخاضعة لسيطرة “الجيش الوطني”، ومعبر ميزناز- معرة النعسان بريف إدلب الشرقي، الواقع تحت نفوذ “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً).
في وقتٍ سابق، قالت صحيفة الوطن السورية، إن أنقرة تعمل على تشجيع دمشق للانفتاح عليها اقتصادياً عبر فتح المعابر التجارية، لكن التطبيع الاقتصادي الذي سينتهجه الرئيس التركي، قد تكون إحدى أهم مقارباته للملف السوري.
مع ذلك، سيكون “الرابح الأكبر من فتح المعابر، في مقدمتها أبو الزندين، هو دمشق وأنقرة، أما الشعب السوري الذي أعلن الثورة على النظام، فسيكون الخاسر بكل تأكيد، فتركيا ستستفيد من إعادة خط الترانزيت الذي يمرُّ عبر سوريا والخليج العربي، والنظام سيستفيد من عائدات المرور”، والحديث لـلفرحات.
مقابل ذلك، لا يعتقد العقيد الركن “أن تكون هناك فائدة لمناطق درع الفرات في حال فتح المعبر، فطالما معبر باب الهوى مع تركيا لا يزال مفتوحاً، فجميع السلع والخدمات تدخل عبره إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إلا إذا كان هناك قرارٌ دولي بإغلاقه، حينها سيكون الشريان الوحيد لمناطق المعارضة باتجاه النظام”.
فريد إدوار