علاقة غريبة بين روسيا وتركيا تحمل في طياتها العديد من الخلافات والتوافقات، ففي الوقت الذي يتعاون فيه كلا البلدين بشكل علني، يخوضان ضد بعضهما حروباً في سوريا وليبيا، كما تحتاج أنقرة إلى موافقة موسكو لشن هجوم جديد ضد شمال سوريا والحفاظ على وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان… وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل العلاقة بين تركيا وروسيا في ظل ظروف ومتغيرات قد تقلب الموازين ليصبح الحليف الحالي عدواً في المستقبل.
تحديات متبادلة دفعت إحدى البلدان للتقارب مع الآخر خلال الفترة الحالية حيث تحتاج أنقرة إلى الغاز والأموال والدعم الروسي لكي يواجه “أردوغان” الانتخابات الرئاسية الصعبة في العام المقبل عبر إيجاد حلول للمشاكل الداخلية التي ما زالت تتفاقم شيئاً فشيئاً مع انهيار الاقتصاد ونفاذ النقد الأجنبي تقريباً من البنك المركزي إلى جانب وصول معدل التضخم لنحو 80 في المائة سَنَوِيًّا، وكذلك محاولة كسب موسكو في قضايا خارجية تعتبرها أنقرة مهمة جداً كسوريا مثلاً.
بالمقابل تسعى روسيا إلى البحث عن أصدقاء في محاولة منها الهروب من شبح العقوبات الغربية التي استهدفت قطاعي الاقتصاد والصناعة وخاصة بعد شنها الحرب ضد أوكرانيا، من خلال حصولها على فوائد مبيعات الطاقة والأسلحة والاستثمار وعلاقة وثيقة مع أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
——————-
“لتدفع كل هذه التحديات الرئيسين الروسي والتركي إلى إيجاد نقاط مشتركة بينهما من خلال لقائهما مرتين في الأسابيع الماضية وهو أمر غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين ضمن مسعى يهدف لتذليل الصعوبات الاقتصادية والسياسية”
——————-
وهنا تظهر ازدواجية المعايير التركية في التعامل مع روسيا والدول الغربية، حيث تعمد أنقرة للعمل مع البنوك الروسية الخاضعة للعقوبات وقبول المدفوعات من خلال بطاقات الائتمان، وأيضاً السماح بتدفق الغاز الروسي دون عوائق عبر خط أنابيب “ترك ستريم”، كما تحدثت العديد من التقارير عن مساعدة أنقرة لموسكو في توفير “قنوات فرعية” لأسلحتها كونها لم تعد مصدرًا لأوروبا بشكل مباشر، الأمر الذي سيثير بالتأكيد غضب أعضاء “الناتو” ضد أنقرة التي تسعى من خلال هذه الأفعال إلى توفير فجوة كبيرة لموسكو للهروب من العقوبات الغربية والأمريكية الهادفة بالدرجة الأولى إلى إفشال حرب روسيا المستمرة ضد أوكرانيا.
حيث قالت أستاذة العلوم السياسية في جامعة أنقرة، إلهان أوزجيل، إن “السياسة الخارجية التركية دخلت مرحلة خطيرة للغاية”… يجتمع الزعيمان ويتفاوضان لكن الزعيمين فقط الجالسين في القصر إلى جانب عدد قليل من الأشخاص الآخرين وهم عبارة عن مجموعة صغيرة جِدًّا، يعرفون محتوى هذه المفاوضات “.
ولعل قيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بترك نظيره الروسي فلاديمير بوتين واقفًا بمفرده لمدة دقيقة تقريبًا خلال لقائهما في القمة الثلاثية بالعاصمة الإيرانية طهران منذ عدة أسابيع تعتبر دلالة وتذكير بتغير ميزان القوة بينهما فقد أبقى “بوتين” “أردوغان” منتظرًا في وقت سابق لمدة طويلة.
—————–
“كما أن العلاقات بين البلدين بحسب مصادر مطلعة تصل في كثير من الأحيان إلى مستويات متدنية جداً حيث تجري المناقشات بين الرئيسين عن كثب دون علم مؤسسات الحكومة المعنية في كلتا الدولتين”
——————
ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن مسؤولين أتراك قولهم: “لا أحد في أنقرة سعيد لأن روسيا تسيطر على أجزاء من الحدود الشمالية لتركيا على البحر الأسود وأيضاً مناطق بمحاذاة الحدود الجنوبية مع سوريا، لكن الجميع يدرك أهمية التفاوض وإقامة علاقة جيدة وتسوية مؤقتة مع روسيا… حيث إن البديل الوحيد لذلك هو الحرب”.
الأمر الذي أكده “أردوغان” بعد عودته من الاجتماع مع الرئيس الروسي في سوتشي، قائلاً للصحفيين: “بوتين يتخذ موقفا عادلا تجاه تركيا”، مضيفاً، “التفاهم المتبادل الذي بنيناه مع بوتين القائم على الثقة والاحترام يؤكد علاقاتنا”.
من جهتها، تراقب الولايات المتحدة الخطوات المتبادلة بين روسيا وتركيا بعناية ودقة، محذرة أنقرة في أكثر من مناسبة بأن لاتكون ملاذًا آمنًا للأصول أو المعاملات الروسية غير المشروعة، داعية أنقرة في الوقت نفسه إلى تقليل الاعتماد على الطاقة القادمة من روسيا، لتذكر تركيا بتصريحات مسؤوليها حول دعم سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، وحديث “أردوغان” الذي وصف الهجوم الروسي بأنه “غير مقبول”.
وأكد سفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، إيفو دالدر، أن “أردوغان” يبقي جميع خياراته مفتوحة، وهو ما تميل الدول إلى فعله عندما تفكر فقط في مصلحتها الشخصية.. وهذا ليس ما يفعله الحلفاء، مشيراً إلى أن الرئيس التركي اكتشف طريقة للعب، لكنه يفعل ذلك على حساب تحالف هو مفتاح لأمنه.
——————
“وقالت أسلي آيدينتاسباس من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن الرئيس الروسي يتمتع بنفوذ هائل على نظيره التركي، حيث إن روسيا مصدر للعملة الصعبة والطاقة الرخيصة، كما أن الأمر لن يستغرق سوى عدد من الضربات الجوية الروسية على شمال سوريا لإغراق تركيا بمليوني لاجئ آخرين”
——————-
تتأرجح العلاقات الروسية – التركية خلال السنوات الماضية بين الصدام والتفاهم بفعل تشابك مصالح الدولتين في عدد من الملفات الدولية والإقليمية التي تم ذكرها بداية التقرير وما نتج عن ذلك من تصادمات بقيت محكومة ضمن إطار محدد حال دون القطيعة التامة بين الدولتين، لكن مستقبل العلاقات قد يختلف كثيراً عن واقع التفاهمات في اللحظة الراهنة، فكلا الطرفَين يتعاملان مع علاقاتهما من منظور المصالح المتبادلة وهو ما قد يعمق الخلافات والصراعات بين الجانبين مع تأثر فرص التعاون بينهما في كافة الملفات وخاصة المتداخلة منها والتي ستكون ضمن سوق المساومات والتنازلات.