تحاول أنقرة تجميل الانتهاكات الواسعة التي ترتكبها في شمال سوريا، تارة تحت مسمى حماية أمنها القومي وتارة أخرى تحت مسمى محاربة الإرهاب، إلا أن كل تلك التسميات باتت مفضوحة ليس للرأي العام السوري ولا العربي فحسب، بل وحتى العالمي، بأنها ذرائع تتستر بها لتمرير نزاع عرقي، يستهدف تحديداً الشعب الكردي أينما كان موجوداً.
وعليه، ليس غريباً ما تقوم به اليوم، من استهداف للبنى التحتية في شمال سوريا، كون ذلك يحقق لها هدفها الأساسي الذي لا تحيد عنه، وهو منع الحياة عن الكرد، وقطع سبل عيشهم، وإنهاء مقومات بقائهم على أرضهم.
وبالتالي، فإن إدراك تلك الحقيقة، يجعل تفسير التحشيد والتنكيل التركي جلياً وواضحاً للمتابعين، فيما تبقى المبررات والذرائع تحصيل حاصل، يمكن لأنقرة أن تحصل عليها متى أرادت، إن كان حالياً عقب الهجوم الذي استهدف أنقرة، أو سابقاً في نوفمبر 2022، عندما جرى استهداف ساحة تقسيم بإسطنبول عبر امرأة من الجنسية السورية اسمها أحلام البشير، والتي غابت قضيتها وذهبت أدراج الرياح، عقب تنفيذ أنقرة انتقاماً من مناطق الإدارة الذاتية.
وحتى مستقبلاً، لن تعجز أنقرة عن إيجاد مبررات لتنفيذ أي هجوم على مناطق الإدارة الذاتية شمال وشرق سوريا، كونها استطاعت اختراق المنطقة، بدليل المسيرات التي تستهدف قيادات عسكرية وأمنية، وهو أمر ما كان ليحصل لولا وجود ذلك الاختراق، وقد ألقت قوات سوريا الديمقراطية سابقاً على العديد من الأشخاص المتورطين بالتجسس لصالح أنقرة، وعرضت اعترافاتهم وتسجيلاتهم.
الإصرار على اتهام شمال سوريا
في الأول من أكتوبر الجاري، استهدف مسلحان اثنان مبنى وزارة الداخلية التركية في العاصمة أنقرة، أمام وزارة الداخلية وبمحيط مقر البرلمان، وعقبها بثلاثة أيام، وتحديداً في الرابع من أكتوبر، زعم وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أن منفذي الهجوم تدربا في سوريا، متعهداً بالانتقام من المقاتلين الأكراد الموجودين في شمال سوريا وشمال العراق قائلاً: “من الآن فصاعدا كلّ البنى التحتية والمنشآت الكبيرة ومنشآت الطاقة في العراق وسوريا هي أهداف مشروعة لقواتنا الأمنية”، وهو ما يضع ألف إشارة تعجب حولها، ويدعو للتساؤل حول مشروعية استهداف البنية التحتية لشعوب المنطقة، وتحت أي بند من قوانين الحرب يمكن أن يفسر ذلك.
القائد العام لقوات سوريا الديموقراطية مظلوم عبدي رفض الاتهامات التركية، مدوناً تغريدة قال فيها: “منفذو هجوم أنقرة لم يمروا من مناطقنا كما يزعم مسؤولون أتراك، كما أننا لسنا طرفاً في الصراع الداخلي التركي”، مضيفاً: “أنقرة تبحث عن ذرائع لشرعنة هجماتها المستمرة على مناطقنا وشن عدوان عسكري جديد”، وأكمل: “إن استهداف البنية التحتية والمصادر الاقتصادية للمنطقة والمدن الآهلة بالسكان يعدّ جريمة حرب”.
وبالتوازي، قالت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إن استهداف تركيا مواقع تابعة لها سيؤثر سلباً على جهود مكافحة تنظيم داعش، وأضافت في بيان أن الهجمات “ستفضي لمشروع فوضى كبير”، داعيةً المجتمع الدولي والتحالف الدولي وروسيا على اتخاذ مواقف “فعالة ورادعة لتركيا”.
بينما طالب مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”، المجتمع الدولي بالتحرك ضد التهديدات التركية على شمال وشرقي سوريا، وقالت إلهام أحمد رئيس الهيئة التنفيذية للمجلس عبر تغريدة لها على تطبيق “إكس”، إن “تركيا تستخدم الطائرات بدون طيار بشكل روتيني لمهاجمة مدننا، والآن تهدد بضرب البنية التحتية في منطقتنا، حيث يعيش 5 ملايين شخص، بما في ذلك النازحين”، وشددت على ضرورة تحرك المجتمع الدولي ضد الاتهامات والتهديدات التركية قبل فوات الأوان.
في حين أعربت الولايات المتحدة الأميركية، عن قلقها إزاء التهديد العسكري التركي، وقال نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية فيدانت باتيل خلال مؤتمر صحفي، أن الولايات المتحدة قلقة على وجه الخصوص بشأن تأثير هذا التصعيد على المدنيين وعلى الجهود القائمة لدحر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
النية التركية المُبيتة للهجوم
لكن ولأن النية التركية مُبيتة، وليست بحاجة إلا إلى شرارة تشعلها، اعتمدت أنقرة على خوفها من الكرد السوريين وإمكانية انتقال عدوى التحرر لديهم، إلى ملايين الكُرد داخل حدودها، وبدأت في الخامس من أكتوبر، بعمليات جوية واسعة النطاق، استهدفت كامل المناطق الحدودية في شمال سوريا، من جنوب عفرين أو ما يعرف بـ مناطق الشهباء، وصولاً إلى مدينة المالكية\ديريك، مستهدفةً كما تعهد المسؤولون الأتراك، البنية التحتية للمنطقة، بهدف القضاء على مقومات بقاء شعوب المنطقة على أرضهم.
فكثّف الجيش التركي، قصفه الجوي والبري، على قرى وبلدات بريف عفرين ومنطقة الشهباء، كما استهدفت المسيرات والطائرات الحربية التركية، بغاراتها مدينة الحسكة، لتخرج محطتي لتحويل الكهرباء عن الخدمة، ومنها محطة كهرباء السد الغربي التي تغذي أجزاء واسعة من مدينة الحسكة وأريافها، كما استهدفت مسيّرة تركية قرية الطويلة في الريف الغربي لبلدة تل تمر بريف الحسكة.
أيضاً طالت الهجمات سداً حيوياً في ناحية جل آغا ومحطة “آل قوس” شمال جل آغا، ومحطة “سعيدة” للنفط في ريف القامشلي، وفي عامودا قصفت مسيرة تركية قرية تل حبش الواقعة 3 كم جنوبها، إضافة إلى محطة للكهرباء على حزام المدينة، ومحيط محطة تحويل المياه في قرية الركبة.
كذلك، استهدفت المسيرات مواقع نفطية في قرية “كرداهول” بمحيط تربه سبيه، ومعملاً في قرية مشيرفة الحمة ومحيط مخيم واشوكاني لمرتين وسيارة قريبة من معمل في قرية مشيرفة الحمة، وفي كوباني تم استهداف قرية صرين وقرية القصف، إضافة إلى استهداف دراجة نارية في قرية جلبية شرق كوباني.
وقد أصدر المركز الإعلامي لقوى الأمن الداخلي شمال وشرق سوريا، حصيلة الاعتداءات التركية، وقال إن “عدد المواقع التي تعرضت لقصف الاحتلال التركي خلال يوم ٥ أكتوبر، 21 موقعًاً، منها 10 بنية تحتية، و8 مواقع سكنية و3 مواقع استهدف فيها قوى الأمن الداخلي”، مبيناً أن الاعتداءات أدت إلى “استشهد 11 شخصاً، منهم ٥ مدنيين و٦ أعضاء من قوى الأمن الداخلي، كما جرح 10 أشخاص منهم 8 مدنيين، و٢ من أعضاء قوى الأمن الداخلي”، ولفت إلى أن المواقع التي تم استهدافها، تشمل مدينة الحسكة وقامشلو وتل تمر وكوباني ومنطقة الشهباء.
سابقة لم تحصل من قبل
لم تحمل الاعتداءات التركية الأخيرة جديداً عن طبيعة عقلية الجانب التركي، وتعاطيه مع الشعب الكردي في سوريا، لجهة سعي أنقرة التنكيل بهم وهدم أي مكتسبات اقتصادية أو سياسية أو عسكرية يحققونها، لكنها سجلت سابقة لم تحصل من قبل، عندما أسقطت طائرة أمريكية من طراز إف 16، مسيرة تركية من طراز بيرقدار، بالقرب من منطقة تل بيدر في محافظة الحسكة.
وقد بررت واشنطن عملية الإسقاط باقتراب الطائرة من القوات الأمريكية، وهو تبرير لا يعتبر منطقياً إلى حد كبير، إذ طالما أن الطائرات التركية تحلق في الأجواء السورية شمال البلاد، فيها على مقربة من العسكريين الأمريكيين، الذي لا يعتبرون في خانة الأعداء المفترضين للأتراك، فيما دفعت الصدمة من الفعل الأمريكي، أنقرة إلى إنكار تبعية الطائرة لها، رغم أن الصور التي تناقلها الناشطون لحطام الطائرة، تُثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بأنها من طراز بيرقدار المعروف لدى أهالي المنطقة.
ورغم الامتعاض المحلي في شمال سوريا من الدور الأمريكي، وحديث كثير من المراقبين بأن الهجمات التركية ما كانت لتحصل بالأمس واليوم وغداً، إلا بموافقة أمريكية، لكن آخرين يجدون في ذلك تعميماً خاطئاً، إذ تسعى أنقرة لاقتناص الفرص لتنفيذ الهجمات، وربما يكون إسقاط المسيرة التركية خلال هجمات الأمس، رسالةً شديدة اللهجة من واشنطن لأنقرة، تُغير شكل الاعتداءات التركية مُستقبلاً.
خاصة أن الولايات المتحدة لم توارب في إسقاطها طائرة تتبع لحليفتها المفترضة في الناتو، وقد ذكر مسؤولان أميركيان لوكالة “رويترز”، إن طائرة مقاتلة أميركية من طراز إف-16 أسقطت طائرة تركية مسيرة كانت تعمل بالقرب من القوات الأميركية في سوريا، وأردف المسؤولان اللذان تحدثا شريطة عدم الإفصاح عن هويتيهما، أن الولايات المتحدة أجرت مجموعة مكالمات مع المسؤولين الأتراك لتنبيههم من أنهم يعملون بالقرب من القوات البرية الأمريكية.
قبل أقل من عام
وتذكر هجمات الخامس من أكتوبر للعام 2023، بهجمات مُماثلة نفذتها أنقرة قبل أقل من عام، في العشرين من نوفمبر 2022، وأسمتها بعملية “المخلب – السيف”، بعد أسبوع على تفجير بـ”شارع الاستقلال” بمنطقة تقسيم في إسطنبول، ووقتها، طال قصف تركي مماثل مواقع في محافظتي حلب (شمال) والحسكة (شمال شرق)، وكوباني ومناطق الشهباء.
وقد عقبت حينها الولايات المتحدة، واصفة الوضع بالـ “الصعب”، حيث طالب منسق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، بريت ماكغورك، بالتوقف عن زعزعة الاستقرار في شمالي سوريا.
مؤكداً آنذاك على التزام الولايات المتحدة وحرصها لإبقاء الحدود السورية التركية آمنة، لافتاً إلى أن واشنطن ليس لديها أي معلومات عن الجهة التي نفذت هجوم إسطنبول الذي وقع في 13 نوفمبر 2022، وهو ما تكرر مؤخراً في الأول من أكتوبر الجاري، إذ أكدت واشنطن عدم تلقيها معلومات حول حقيقة انتقال المقاتلين المزعوم من شمال سوريا إلى تركيا، وهو ما يبدو أن تركيا لن تقدمها في كلتا الحالتين، كونها تكتفي بالاتهام لتنفيذ العقاب.
وختاماً، تؤكد جملة المعطيات وأحداث السنوات السابقة، منذ بدء التدخل العسكري التركي المباشر في أغسطس العام 2016، أن اعتداءات أنقرة على شمال سوريا، مرهونة بقوة وحزم الموقف الدولي، الذي إن تراخى، ستكون معه المنطقة أمام إبادة جماعية على أساس عرقي تستهدف الشعب الكردي على وجه الخصوص، خاصة أن تنظيم داعش الإرهابي يسعى هو الآخر للانتقام من هزيمته، تحت مسميات عدة، ليس آخرها “العشائر”، البريئة من إجرام شرذمة من المتمردين والمتطرفين المدعومين من أنقرة ودمشق معاً.