يعيش الليبيون حالة غضب غير مسبوقة على مدار الأيام الماضية بعد تسريب أنباء بشأن استئجار تركيا ميناء الخمس الاستراتيجي لمدة 99 عاماً لإقامة قاعدة عسكرية بحرية، وهي أنباء حتى لو لم تتأكد فإن حدود تداعياتها لن يقتصر على الأراضي الليبية، بل ربما يكون لها انعكاس كبير على مواقف الجارة مصر التي كانت قد قطعت خطوات ملموسة في مسار تطبيع العلاقات مع النظام التركي بعد سنوات من القطيعة، بل وربما يمتد الأمر لدول الخليج.
وقد تتبعت منصة “تارجيت” الإعلامية من سرب نبأ استئجار الميناء لأول مرة فكانت المفارقة أنه حساب رسمي لمركز أبحاث تركي متخصص في الدراسات العسكرية البحرية، في المقابل نفى أحد مسؤولي الإعلام بحكومة عبدالحميد الدبيبة صحة ما كتبه المركز التركي أو ما تداولته وسائل إعلام ليبية كذلك، لكن هذا النفي قد لا يتم أخذه على محمل الجد، كون آخر حكومتين في طرابلس سبق ونفتا على سبيل المثال وجود مرتزقة تركيا رغم أن الواقع غير ذلك.
أهمية استراتيجية
وخطط إقامة القاعدة البحرية التركية في ميناء الخمس ليست وليدة اللحظة، ففي يونيو من عام 2020، ذكرت صحيفة يني شفق التركية الموالية للنظام التركي بكل وضوح أن أنقرة تريد إقامة قاعدتين عسكريتين في الأراضي الليبية واحدة بحرية وأخرى جوية في قاعدة الوطية والتي توجد بها قوات تركية أيضًا.
وبحسب المعلومات، فإن ميناء الخمس الذي يقع بمدينة الخمس على ساحل البحر المتوسط وعلى بعد 120 كلم من طرابلس، هو أكبر ميناء تجاري في البلاد بمساحة 249 هكتاراً بطاقة استيعاب مليون طن سنويًا، ويتميز بربطه بين الطريق الساحلي العام الخمس وطرابلس، كما أنه قريب من مدينة مصراتة التي تمتلك أنقرة فيه نفوذًا عسكريًا كذلك، وكان رئيس مجلس النواب الليبي المستشار عقيلة صالح صرح برفضه فكرة ضم القسم التجاري من الميناء إلى القاعدة العسكرية، وهو ما تخطط له تركيا إن صحت أنباء استئجاره، لا سيما بعد تناقل صور لبوارج بحرية تركية قرب السواحل الليبية.
منصة “تارجيت” الإعلامية تحدثت مع مفتاح الخمسي، وهو ناشط من أبناء مدينة الخمس يكتب تحت هذا الاسم المستعار خوفاً من الملاحقات، والذي قال إن ميناء الخمس يحتل موقعاً استراتيجياً على البحر المتوسط وينقسم إلى قسمين، القسم الأول مدني تجاري، والقسم الثاني عسكري معروف باسم القاعدة البحرية وتتواجد فيه القوات التركية والتي جاءت بموجب الاتفاق الأمني غير القانوني الذي كان قد أبرم بين أردوغان ورئيس المجلس الرئاسي الليبي السابق فايز السراج.
ويضيف الخمسي أن الميناء البحري المدني يعمل بكل طاقته مدنيًا، والقاعدة البحرية كانت بالأساس تعمل ضمن القوات البحرية الليبية منذ سنوات طويلة، لكن في عام 2019 تغير الوضع عندما بدأت قوات الجيش الوطني الليبي (يقودها خليفة حفتر وتحظى بمساندة واسعة في الشرق الليبي) عملية “الفتح المبين” لتحرير العاصمة “طرابلس” من الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة، على حد تعبيره.
وأوضح الناشط الليبي أن تلك المليشيات المنتشرة في العاصمة وبعض مناطق الغرب الليبي دعت القوات التركية للتحالف معها ضد قوات “الجيش الوطني”، وقد جاءت القوات التركية وبدأت في الدخول للحرب، وعندها بدأت تضع موطئ قدم لها في غرب البلاد، ومن ضمن تلك الأماكن القاعدة البحرية بمدينة الخمس، والتي في البداية كانت مركزًا للتدريب العسكري فقط، ومع مرور الوقت وتغلغل تلك القوات أصبحت مقرًا لها.
ويقول مفتاح الخمسي إن الحديث عن تواجد القوات التركية أو إرساء البوارج والقطع البحرية في الميناء الآن ليس حديث عهد إطلاقاً، بل هو شيء مألوف منذ فترة طويلة، ولكي نكون أكثر تحديداً منذ أن دخلت تركيا في الحرب ضد القوات التي يقودها خليفة حفتر في تلك الفترة، بمعنى أن الأمر ليس بجديد الآن، ولكن لربما فقط زادت الأمور عن ذي قبل، حيث أصبح الوجود العسكري البحري التركي علني بعد أن كان خفياً.
ملامح غضب شعبي وعسكري
ويتحدث الناشط مفتاح الخمسي عن حالة الغضب داخل مدينة الخمس وبين الليبيين إزاء هذا التواجد العسكري البحري التركي، فيقول إنه مع ازدياد دخول البوارج والقطع البحرية إلى القاعدة والميناء، ومع ظهور خبر مفاده استئجار الميناء البحري المدني انفعل سكان المدينة وخرجوا شباباً وشيباً للشوارع والميادين منددين بهذا الإجراء ومطالبين بإيقافه.
ويلفت إلى أن هذه الاحتجاجات تصاعدت لدرجة أنه قد تم إغلاق الطرق الرئيسية والفرعية المؤدية للعاصمة طرابلس، وإحراق الإطارات في الشوارع وغيرها، تعبيراً منهم عن رفضهم القاطع لهذا الإجراء جملة وتفصيلاً، وربما يكون هذا الغضب سبباً في مسارعة حكومة عبدالحميد الدبيبة “غير الشرعية” – حسب وصفه لها – إلى نفي نبأ استئجار الميناء البحري المدني من قبل أنقرة.
ولم تقتصر الدعوات الرافضة للوجود العسكري التركي عند هذا الحد عقب أنباء استئجار الميناء، فقد تداولت منصات التواصل الاجتماعي على مدار الأيام الماضية مقاطع مصورة لمجموعة عسكرية مجهولة في غرب ليبيا تعلن عن انتفاضة مسلحة ضد ما وصفته بـ”الاحتلال التركي”، مؤكدة أن جميع القواعد والمقار العسكرية التركية في الأراضي الليبية أصبحت أهدافاً مشروعة لها.
وأكدت تلك القوة رفضها تمادي القوات التركية في السيطرة على عدد من المواقع المهمة في الدولة الليبية، محددة في هذا السياق قاعدة الوطية وميناء سيدي بلال، وأخيراً ميناء الخمس، كما أكدت أن انتفاضتها تأتي في وقت تلتزم حكومة عبدالحميد الدبيبة في طرابلس الصمت، مكررة وصفها حكومته بـ”غير الشرعية”.
وعن تلك القوة المجهولة، يقول عبدالهادي ربيع الكاتب الصحفي المصري المتخصص في الشأن الليبي، لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن عناصرها ينحدرون من مدينة الزاوية غرب البلاد وهي من القوات الموالية لوزير الداخلية بالحكومة التابعة لمجلس النواب عصام بوزريبة، وتجمع شتاتاً من القوات التي قصفها الطيران التركي المسير في أوقات مختلفة في المدينة.
وأوضح ربيع أن هذه المنطقة قصفها الطيران التركي المسير لدعمها الحكومة التابعة لمجلس النواب فيما سبق، كما تعمل على تجميع الميليشيات المختلفة المتضررة من الهجمات التركية ومن حكومة الدبيبة؛ نتيجة المعارك المتتالية لتشكيل قوة موحدة ضدهما، مستغلين ما تم تسريبه بشأن إيجار ميناء الخمس لمدة 99 عاماً للأتراك.
ويقول الكاتب الصحفي المصري، نقلاً عن مصادره، إن العدد الخاص بها حتى الآن يتراوح بين 300 و350 شخصاً ولديها آليات وأسلحة بين المتوسطة والخفيفة، إلى جانب أسلحة الآر بي جي والهاون وغيرها، وتنتشر وتتواجد بصفة رئيسية بين مدينة الزاوية وكوبري 27 خارج المدينة أي على الطريق الساحلي الدولي.
وكالة تركية تؤكد الخبر
في غضون ذلك، نشرت وزارة الدفاع التركية، هذا الأسبوع، صوراً لفرقاطة عسكرية تركية تجري تدريباً قبالة السواحل الليبية، وشمل التدريب اختبارات الأسلحة بالذخيرة الحية وعمليات بطائرات هليكوبتر، دون أي تعليق رسمي بشأن ما يثار حول التواجد العسكري التركي في الأراضي الليبية.
لكن وكالة “دينيز خبر” التركية قالت إن القوات المسلحة التركية ستقوم بإنشاء قاعدة عسكرية في ميناء الخمس الليبي والتي ستكون تحت سيطرة القوات البحرية والبرية، موضحة أن الميناء سيستأجر لمدة 99 عاماً، وأن من شأن ذلك المساهمة في تعزيز الدفاع عن المناطق ذات السيادة البحرية التركية، فضلاً عن أمن السفن التجارية.