بات الحديث عن التغيير الديموغرافي، من المُسلمات في الحرب الأهلية الطاحنة التي عاشتها سوريا خلال العقد الأخير، ما خلق تغييراً كبيراً على الواقع الديموغرافي لمختلف المكونات السورية.
ويمكن القول، بأنه ما من مُكون سوري، إلا وتضرر ديموغرافياً من الصراع، حتى بات مصطلح الهندسة الديموغرافية رائجاً بين السوريين، مع اختلاط أوراق الدول اللاعبة في الشأن السوري، حيث عمل كل منها على حشد الموالين لها بالداخل السوري، في زاوية خاصة بهم، إن على أساس عرقي أو ديني أو طائفي.
مُناسبة الحديث، ما شهدته منطقة سوق ساروجة في دمشق، من دمار كبير، عقب اندلاع حريق ضخم في المنطقة القديمة من العاصمة السورية، فجر 16 يوليو الماضي، حين نشب حريق في منزل دمشقي قديم، وتوسع ليشمل العديد من المنازل والمحال التجارية المجاورة في حي العمارة وسوق ساروجة والشيخ مجاهد.
تكرار اندلاع تلك الحرائق في دمشق القديمة، أثار الشكوك حول من يقف ورائها، بالأخص أنها جاءت مع محاولات شراء البيوت، لتولد فكرة أن الحرائق مفتعلة لإجبار الناس على بيع بيوتهم وأراضيهم، وإحداث تغيير ديموغرافي لسكان دمشق الأصليين.
الحرائق هي فعل إرهابي منظم
وبخصوص ذلك، قال “د.علاء الدين آل رشي” مدير “المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا”، إنه “في العديد من الصراعات والأزمات، يتم الادعاء بحدوث أفعال مفتعلة كجزء من استراتيجيات تغيير الديموغرافية أو ترحيل السكان”.
واستكمل: “مثل هذه الادعاءات غالباً ما تأتي في سياق الصراعات العنيفة التي تشهدها بعض المناطق، ومن الصعب وليس من الصعب تأكيد صحتها في ظل عصابة قالت الأسد أو نحرق البلد وهو ما حصل فعلياً”.
وأشار: “من الواضح أن وجود جهات مستفيدة من الحرائق عن طريق شراء العقارات بأسعار منخفضة، يمكن أن يشجع على عمليات الحرق وبالأخص في دمشق، التي يراد مسح وجهها التاريخي وبعدها الحضاري، ومع ذلك نقول إن هذه الحرائق هي فعل إرهابي منظم من قبل سلطة الأمر الواقع المحتل الأسدي”.
واستطرد: “من المهم أن نجري تحقيقات شاملة وشفافة في حرائق دمشق القديمة، لكشف الحقيقة والمسؤولين وتحقيق العدالة، ويجب علينا التأكد من أن حقوق جميع الأشخاص المعنيين محمية وتُحترم، وأن السكان المحليين يعيشون في سلام وأمان في وطنهم، وأن المسؤول عن كل ما يحصل هو الإرهاب المنظم الذي يقوده بشار الأسد”.
الشركات الأجنبية والسيادة الوطنية
بالتوازي، اتخذت حكومة دمشق سلسلة من القرارات منذ عام 2011، وحتى الآن، اعتبرها مراقبون بأنها لأجل تنفيذ سيناريو التغيير الديموغرافي في دمشق، كالتنظيم القانوني الذي جعل ملكية الأراضي في مناطق دمشق القديمة ملكية شائعة، ما حرم أصحاب تلك العقارات من حقوقهم المسجلة في التسجيل العقاري.
ذلك بجانب إسناد مهمة إعادة تنظيم تلك الأحياء إلى شركات التطوير العقاري بالتعاون مع شركة دمشق الشام القابضة، وأيضاً الشركات الإيرانية ومن أهمها شركة ”نبّوت كوثري“ المتخصصة في أعمال ترميم المراقد المقدسة.
وحول تقييمه لذلك، قال آل رشي لـ”تارجيت”: “إن تغيير الديموغرافية في المجتمعات المتأثرة بالنزاعات العنيفة يعد أمراً حساساً ومعقداً، قد يتم تنفيذ سياسات وإجراءات متعددة في محاولة لإحداث تغيير سكاني، ولكن يجب رؤية هذه السياسات في سياق الأمن والاستقرار واحترام حقوق الإنسان، وهذا ما لا تجيده سلطات الاحتلال الأسدي الإيراني”.
وأردف: إذا كانت سلطات الاحتلال الأسدي قد اتخذت قرارات تتعلق بتنظيم الملكية العقارية أو إعادة تنظيم الأحياء، فيجب أن تتم هذه العمليات وفقاً لمبادئ العدالة والشفافية ومُعالجة المشاكل الاجتماعية المعيشية للسكان المحليين، يجب أن يتم تمكين المالكين الأصليين من حقوقهم القانونية ومن فرص المشاركة في صنع القرار، وهذا كله غير متحقق في ظل نظام القتل والحرق الأسدي”.
واستتبع: “علاوة على ذلك، يمكن أن يثير استخدام الشركات الأجنبية في عمليات التنمية والترميم تحفظات وقلق بشأن تأثيرها على السيادة الوطنية والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المحلية، وهو ما يدحض أكاذيب الأسد في حواره الأخير حيث إدعى أنه يبحث عن المصلحة الوطنية، يجب أن تكون شركات الترميم شركاء نزاهة ومستفيدين سواء للحكومة والشعب المحلي”، مُستدركاً: “لكن الشركات مسيرة ومسيسة وطائفية”.
تمليك غير السوريين
ومنذ العام 2011، قامت حكومة دمشق تعديل القوانين العقارية، وضمنها فك القيود عن تملُّك الأجانب، والتي لم تكن تعديلات لأسباب موجبة، بل فتحت باب الملكية العقارية أمام الأجانب مثل الإيرانيين والروسيين وبقية البلدان التي تدعم السلطة.
وحيال نظرته لذلك، أوضح آل رشي لـ”تارجيت”: “يقر القانونيون بأن مراقبة صدور سلسلة القوانين العقارية في سوريا منذ عام 2011 وحتى اليوم، أن النظام أصدرها بطريقة “ممنهجة” و”خبيثة”، إذ يمهد كل قانون للقوانين التي تليه، وجميعها تؤدي في النهاية إلى نتيجة حتمية هي التغيير الديموغرافي ومصادرة الملكيات العقارية لـ”المعارضين السوريين” من خلال نقل ملكيتها، وإتلاف المستندات العقارية، والتلاعب بقيود السجل العقاري بطريقة قانونية، وإحداث التغيير الديموغرافي في سوريا، وذلك بتهجير فئات من السكان وإحلال غيرهم”.
وأكمل: “من هنا نرى القوانين التي فتحت الباب أمام تمليك غير السوريين، وخاصة من خلال القانون رقم /10/ لعام 2018، الذي يتضمن ثغرات عديدة لسلب الملكيات العقارية من أصحابها وتمليكها للأجانب الذين سيسهمون بإعادة الإعمار، وسيتملكون العقارات لقاء أدوارهم بذلك، هي قوانين مسيسة وضارة وهذا ما يوجب العمل على إلغاء هذه القوانين بكل مفاعيلها لعدم دستوريتها، واعتبار جميع عقود تمليك الأجانب التي تمت بموجب أحكامها باطلة”.
ليس مسألة محلية فقط
وفي ظل التدخل الدولي في الشأن السوري، وإمكانية القول بأنها توافقت على إعادة هندسة الديموغرافية السورية بما يتوافق مع مصالحها ووجودها، رأى مدير “المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا” إن “التدخل الإيراني والروسي والتركي والأمريكي في الشأن السوري موضوع حساس ومعقد”.
شارحاً: “قد أفضى إلى كوارث وإعادة ترسيم الجغرافيا النفسية والفكرية والأخلاقية بين المكونات السورية، بل وإعادة هندسة الديموغرافية على مصالح الأطراف المعنية وأهدافهم السياسية والاستراتيجية”.
“قد يكون لكل منهم اهتمامات وأجندات مختلفة في الشأن السوري، ولكن الكل متفق على مسح أي تاريخ أو عصبة أو هوية سورية، وفق قاعدة فرق تسد وأضرب الكل بالكل ودمر الكل”، قال آل رشي لـ “تارجيت”.
وأكمل: “من المهم أن نفهم أن التغيير الديموغرافي ليس مسألة محلية فقط، بل تتعلق بحقوق الإنسان والاستقرار الاجتماعي والأمن الدولي، لذلك يجب أن يتم تقييم أي اتفاقات أو سياسات تؤثر على التغيير الديموغرافي في سوريا بشكل متأنٍ ومستنير، وهو ما يجعلنا ننادي بزوال المحتل الأسدي الموظف وكذلك الدول الوظيفية كإيران وتركيا، وكذلك رحيل المشغل الداخلي الروسي والخارجي الأمريكي”.
ليس واقعاً نهائياً
لكن هل يعني التغيير الديموغرافي الحالي، إن في دمشق، وإن في مناطق أخرى كـ عفرين، بأنه أضحى واقعاً نهائياً ينبغي على السوريين الانسجام معه، ذلك ما رد عليه مدير “المركز التعليمي لحقوق الإنسان في ألمانيا”، بالقول: “من الجيد أن يتوافق السوريون على أن سلطة الاحتلال الأسدي وما أفضت إلى اختلال ديموغرافي وما تجلى من كل قوانين تتعلق بتمكين التغيير الديموغرافي هي باطلة، وكل محتل في سوريا عليه أن يرحل وترحل سياسته الديموغرافية”.
وشدد آل رشي على أن “التغيير الديموغرافي ليس واقعاً نهائياً يجب على السوريين أن ينسجموا معه دون خيار”، مستدركاً: “السوريون يحق لهم أن يدافعوا عن حقوقهم ويسعوا لتحقيق التغيير الذي يرونه مناسباً في المستقبل، ومع ذلك، يجب أن تتم هذه العمليات وفقاً لسياق السلم والاستقرار والاحترام المتبادل بين الأطراف المعنية”.
و”لمنع تحقيق أي تغيير ديموغرافي، ينبغي أن يتم بمشاركة وتعاون المجتمع الدولي واحترام إرادة وحقوق السوريين في صنع مستقبلهم”، بيّن آل رشي وأنهى بالقول: “الغوطة ينبغي أن تعود لأصحابها، وعفرين، وكل شبر في دمشق وحلب وإدلب، ينبغِ أن يكون لأصحابه، وهذا مرهون بزوال المحتل الأسدي”.
ليكون معهم تضافر جهود السوريين على مواجهة التغيير الديموغرافي الواقع في مختلف المناطق السورية، الفيصل والحكم في بقاء ذلك التغيير من نسفه، ولعل ما يرفع من فرص بقاء التغيير الديموغرافي الحالي في سوريا، تضرر مختلف السوريين منه، من جهة، وتلاقي مصلحة أغلب السوريين على مواجهته ورفضه، من الجهة الأخرى.