لا يزال مسار التطبيع بين السلطة في دمشق وتركيا، مُترنحاً لكنه مُستمر، لكونه سيفضي في نهاية المطاف إلى تحقيق مصالح الطرفين، المُتمثلة في القضاء على آخر ما تبقى من الانتفاضة الشعبية في سوريا من جهة، وما تعتبره أنقرة تهديداً لأمنها القومي، قائماً في الأساس على إنهاء أي سلطة ذات حكم لا مركزي في سوريا، لخشيتها من انتقال العدوى إليها.
وتصب التصريحات التركية المُتلاحقة أخيراً في هذه الخانة، من خلال التأكيد على مواصلة بذل الجهود لمنع تحول سوريا، إلى ملجأ للتنظيمات الإرهابية وساحة للحروب بالوكالة، وهو ما قاله وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في السابع من أغسطس الجاري، مدعياً أن بلاده لن تترك التنظيمات الإرهابية والقوى التي تقف خلفها، يغمض لها جفن في تركيا والمنطقة.
الحديث التركي ذاك، لا يعتبر مفهوماً للكثيرين، إذ كان لأنقرة دور رئيسي في التدخل بالأراضي السورية، محولةً الأراضي السورية إلى ساحة حرب بالوكالة، عبر دعم فصائل محسوبة على المعارضة السورية، لمواجهة الفصائل المسلحة الموالية لإيران وروسيا، ما تسبب بتدمير حواضر سورية رئيسية، أهمها حلب وحمص وغيرهما.
كما سهلت تركيا، تمرير آلاف المتطرفين عبر أراضيها، من مختلف أصقاع المعمورة، إلى الداخل السوري، لتتحول إلى ملجأ للتنظيمات الإرهابية، كـ داعش والنصرة ومن لف لفهما، كما لم تساهم أنقرة، عملياً في مُحاربة داعش، حتى تطهير “قوات سوريا الديمقراطية” لمدينة منبج، في أغسطس العام 2016، إذ ما لبث أن بدأت أنقرة بعملية عسكرية في مدينة جرابلس، شمال شرق حلب، تحت مسمى “درع الفرات”، استولت عبرها على المدينة، في عملية وصفت بـ”المسرحية”.
عودة طواعية وتغيير ديموغرافي
وبالعودة إلى تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، فقد أكد بأن تركيا ستسرع ما سماها بعملية العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، وسط رفض السوريين واعتبرهم لها “عودة إجبارية”، بينما يعتبر مراقبون في شمال سوريا، الأمر إمعاناً تركياً في منهجها القائم على تغيير ديموغرافية مناطقهم، بالأخص، ذات الخصوصية الكُردية، كـ عفرين ورأس العين، إضافة إلى تل أبيض.
ووسط المساعي التركية للتطبيع مع سلطة دمشق، تقول السلطات في دمشق، بأن رأسها المُتمثل في بشار الأسد، يتمسك بانسحاب القوات التركية قبل الحديث عن أي خطوات للتطبيع، بينما تزعم أنقرة بأن وجودها العسكري في شمال سوريا يضمن وحدة سوريا، في ظل عجز قوات حكومة دمشق عن تأمين الحدود المشتركة، و”منع الهجمات الإرهابية على المناطق الحدودية داخل تركيا، انطلاقاً من الأراضي السورية”.
كما تأتي التصريحات التركية المتلاحقة، وسط الأنباء عن إمكانية التحضير للقاء بين رأسي السلطة في البلدين، أردوغان والأسد، حيث يعتقد مراقبون مقربون من السلطة في أنقرة، أن التوافق السوري التركي، مهم للأمن القومي التركي، إذ تقول أنقرة بأنها على استعداد لمحاربة الإرهاب بجميع أنواعه، وهو ما يختلف عليه الجانبان.
وتقول مصادر من الطرفين (دمشق وأنقرة)، أن اللقاءات التي جرت حتى الآن، اتفق فيها الطرفان على إيجاد قوات مشتركة لحماية الأهالي من “الإرهابيين” بالتنسيق مع روسيا وإيران أيضاً، وهو اتفاق قد يجري تطبيقه خلال شهر، ما تم اعتماده، في ظل تردد سلطة دمشق من التعامل مع تركيا، وعدم رغبتها في إعلان شيء بسرعة، إضافة لوجود توافقات بينهما حول الوضع في شمال شرق سوريا، حيث لديهما قلق مشترك حيال ما تريده واشنطن.
تركيا قتلت القادة الأحرار
وحول الدور التركي خلال سنوات الصراع في سوريا، إن كان قد ساهم في محاربة المنظمات الإرهابية في سوريا، أم ساعدها على الانتشار، كانت لمنصة تارجيت حديث خاص مع المقدم المظلي “عمار الواوي”، أحد أوائل الضباط المنشقين عن قوات حكومة دمشق، والذي شغل سابقاً منصب أمين سر “الجيش الحر”، والمتحدث الرسمي سابقاً باسم “الجيش الحر”، حيث قال: “لقد أدارت تركيا الصراع السوري ضد نظام الإجرام في سوريا، بمنطقة الشمال، بما يتناسب مع مصالحها”.
وتابع: “فقد قامت بقتل بعض القادة الأحرار الذين رفضوا تنفيذ مطامعها، وأبعدت بعضهم وهمشت البعض الآخر، وقامت بتعيين العملاء والخونة قادة للفصائل، لينفذوا مطامعها بسوريا، وطلبت منهم توقيع اتفاقيات الخيانة مثل استانا، كما طلبت منهم الانسحاب من كافة المناطق المُحررة في جنوب وغرب حلب، وشمال حماه وريف إدلب، وقامت بدعم فصيل النصرة الإرهابي، بقيادة الجولاني، وطلبت منه تشكيل حكومة، وفتحت له معبر باب الهوى، للتجارة والتهريب والتشليح وسرقة لقمة العيش من الشعب السوري”.
وأكمل: “كما تدعم اليوم بالإضافة للنصرة، حزب التحرير الإرهابي الداعشي، وفصائل أخرى إرهابية، وحولت إدلب وريفها إلى ساحة إرهاب ينفذ فيها الجولاني ما يريد، مدعوماً بقوات تركية وعربات مصفحة لحمايته، وتقدم له كل الدعم العسكري والمالي، كما تقوم بدعم حكومته فيما يسمى حكومة الإنقاذ”.
الإرهاب بإلف خير
وحيال تصريح وزير الخارجية التركية، عن جهود تركيا لمنع تحول سوريا إلى ملجأ للتنظيمات الإرهابية وساحة للحروب بالوكالة، فقد ذكر “الواوي” لـتارجيت: “النصرة بقيادة الجولاني، وقعت على اتفاق أستانا، وهي من تحمي الدوريات المشتركة الروسية التركية على طريق M4، وهي من تقوم بحماية القوات التركية في إدلب”، وتابع القيادي السابق في “الجيش الحر”: “يدعي إنه يُحارب الإرهاب، ولكن كما قال النفيسي، الإرهاب بإلف خير طالما حقان فيدان يحاربه”.
وبخصوص رأيه بالعلاقة التي يمكن أن يتحدث عنها البعض، بأن فصائل “الجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا، وريثة لـ”الجيش الحر”، فقد أوضح المقدم المظلي عمار الواوي بأن “ما يسمى الجيش الوطني السوري، ليس له علاقة بالوطن والوطنية والثورة، عمله خارج الحدود، يقتل أبناءنا في ليبيا وأذربيجان، وفي معارك خارجة عن إرادة الثورة والشعب”.
“مهمة الجيش الوطني السوري، حماية حدود بشار المجرم، ومنع أي فصيل من إطلاق طلقة على جبهات النظام، مهمته تشليح الشعب وفرض إتاوات وتهريب المخدرات والكبتاغون إلى حزب الله المرتبط بالنظام”، يردف المقدم المظلي لتارجيت، ويضيف: “جميع معامل المُخدرات في الشمال، تقودها تركيا بقيادة ضباط أتراك، ويشرف عليها قادة فصائل، مُرتبطون بالنظام وحزب الله، لتصديرها إلى دول الخليج”.
تركيا لم تقطع تواصلاتها مع النظام
وبصدد الاتهامات التي تطال المُعارضة السورية الحالية، بالانجرار خلف الأجندات التركية، بما فيها مشروع التغيير الديموغرافي بالمناطق الكُردية شمال سوريا، فقد أوضح المقدم المظلي بأن “المعارضة الحالية كركوزات، لا يملكون أي قرار، والنادل الذي يعمل في مكتب المخابرات التركية، يملك قراراً في سوريا أكثر منهم”، مُستكملاً: “مهمتهم تبرير كل ما يفعله الأتراك من جرائم بحق السوريين، سواء القتل على الحدود أو تشريد السوريين وتسفير الموجودين في تركيا”.
وأكمل حول التغيير الديمغرافي: “قبلت تركيا باتفاق مع الروس والنظام وإيران، بتهجير أهالي حلب وحماه وحمص ودمشق ودرعا وباقي المناطق إلى الشمال، وهذا التهجير القسري مرفوض دولياً”.
مُشدداً على أن تركيا “لم تقطع تواصلاتها مع النظام منذ بداية الثورة، وما زالت سفارتها وقنصلياتها موجودة، وتعملان بشكل ممتاز، عبر التشبيح على السوريين وابتزازهم في تركيا”، مُستطرداً: “تركيا للأسف لم تقم بنصف خطوة لصالح الثورة، بل كل ما تفعله يصب في مصالحها القومية والاستراتيجية، وما قادة الفصائل والمُعارضة سوى مطية لتنفيذ الأوامر التركية”.
ومع فقدان قادة المعارضة السابقين، الذين قادوا الحراك المُسلح في فترات اعتبرت مفصلية، تم خلالها تقليص سلطة حكومة دمشق إلى ربع مساحة البلاد، لأي أمل من المعارضة الحالية، بشقيها السياسي والعسكري، تبدو حال المناطق التي تزال محسوبة على المعارضة شمال غرب سوريا، على كف عفريت، في ظل حديث مُعارضين بالخارج، عن هيمنة سلطة دمشق على مناطق شمال وغرب سوريا، بشكل أو بآخر عبر أنقرة، وهو ما يشرع الباب على مصراعيه لتسلم دمشق، إدارة تلك المناطق في نهاية المطاف.