لا يزال رأس السلطة في دمشق، مراهناً على قدرته في دفع الجانب التركي للانسحاب من الأراضي السورية بالطرق الديبلوماسية، عقب ما صدر عن أنقرة منذ استدارتها على سياساتها قبل قرابة العامين، تحت مسمى إعادة العلاقات مع الدول العربية، والتي لم تشمل سلطة دمشق فحسب، بل شملت بلدان الخليج العربي ومصر.
لكن الاستدارة التركية لم تكن كاملة إلى حد كبير، في بلدين تدخلت بهما عسكرياً، هما سوريا وليبيا، وهو ما يجعل الأمر صعباً إلى حد كبير في كليهما، وغير قابل للتدوير قبل الانسحاب التركي منهما.
الأسد يُجدد مطالبته بالانسحاب التركي
بالصدد، أجرت قناة سكاي نيوز عربية، أمس الأربعاء، لقاءً خاصاً مع رئيس النظام بشار الأسد، صرح فيها حول اللقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وطلب تركيا بعدم وضع شروط مسبقة للقاء، بالقول: “كلمة من دون شروط مسبقة للقاء تعني من دون جدول أعمال، من دون جدول أعمال يعني من دون تحضير، من دون تحضير يعني من دون نتائج، فلماذا نلتقي أنا وأردوغان؟! لكي نشرب المرطبات مثلاً، نحن نريد أن نصل لهدف واضح”.
وأكمل: “هدفنا هو الانسحاب من الأراضي السورية، بينما هدف أردوغان هو شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا، فلذلك لا يمكن أن يتم اللقاء تحت شروط أردوغان”.
ولدى سؤاله عن تصريحات أردوغان التي تحدث فيها مراراً بأن الانسحاب التركي لن يتم من سوريا، ما دام هناك إرهاب يهدد الدولة التركية، قال الأسد: “الحقيقة، الإرهاب الموجود في سوريا هو صناعة تركية، جبهة النصرة، أحرار الشام.. هي تسميات مختلفة لجهة واحدة، كلها صناعة تركية وتمّول حتى هذه اللحظة من تركيا، إذن عن أي إرهاب يتحدث”.
أردوغان ما بعد الانتخابات
ولطالما عرف عن الرئيس التركي انقلابه على وعوده وحنثه بها، فبعد أن لمح قبل الانتخابات التركية لإمكانية الانسحاب من الأراضي السورية، عاد أردوغان، منتصف يوليو الماضي عقب فوزها بها، للتأكيد على أن القوات التركية لن تخرج من سوريا، مُضيفاً: “ليس بإمكاننا الخروج من سوريا الآن، فنحن نكافح الإرهاب هناك”، مشيراً حول إمكانية اللقاء مع الأسد، إلى أن مثل ذلك اللقاء يعتمد على موقف الأخير من تركيا، مُتابعاً بأن الرئيس السوري “يريد أن تخرج تركيا من سوريا، وهذا ليس ممكناً”.
وعقب فوز أردوغان بولاية جديدة في مايو الماضي، استبعد المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، عقد لقاء قريب بين الرئيس التركي وبشار الأسد، مشيراً إلى أن “هناك ثلاث قضايا مهمة لتركيا في سوريا، وهي محاربة الإرهاب، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، واستمرار المفاوضات بين السلطة والمعارضة”، على حد تعبيره.
وقد أثارت تصريحات الرئيس التركي حينها، بخصوص عدم نيته الانسحاب من سوريا جدلاً واسعاً، خاصة وأن دمشق تضعها كشرط رئيسي لبدء عملية التفاوض حول تطبيع العلاقات، رغم تراجع بشار الأسد عن شرطه الأولي وهو الانسحاب التركي الفوري من أجل التطبيع، ليتحول فيما بعد إلى إمكانية التفاوض على التطبيع مقابل جدولة عملية الانسحاب التركي من سوريا.
ورأى مراقبون بأن دمشق تحتاج علاقات طبيعية مع أنقرة، إن كانت تريد التخلص من الدعم التركي للمعارضة السورية، لكن أنقرة تقدم شروطاً تعجيزية لإعادة العلاقات، من خلال الدعوة لانتخابات وحكومة جديدة وحل على أساس القرار الدولي رقم 2254، وكذلك إعادة 4 ملايين لاجئ إلى سوريا، وهي شروط لا يبدو أن للسلطة في دمشق، القدرة على تطبيق أي منها، وهو ما تدركه أنقرة/ وبالتالي يكون إصرارها عليهم ضرباً من تعطيل التطبيع لا أكثر.
رغم أن مراقبين آخرين رأوا بأن الطرفين، وإن كانا يرغبان في التطبيع فعلاً، وبدء مسار التفاوض بينهما، فإن الإشكاليات الدولية أكبر من قدرتهما، في ظل الوجود الأمريكي والروسي على سبيل المثال لا الحصر.
الرئيس التركي غير موثوق
وقد اعتبر المحلل السياسي السوري “غسان يوسف”، منتصف يوليو، في حديث لـوكالة “سبوتنيك” الروسية، بأنه “لا أحد يتوقع انسحاب تركيا من الأراضي السورية، حيث يعتقدون أن لأنقرة أطماعاً في دمشق، وهي دخلت إلى سوريا ليست فقط كما تقول لمحاربة حزب العمال الكردستاني، بل لأطماع جيو سياسية”.
“تعتبر تركيا بأن الأراضي التي احتلتها تركيا، خاصة شمال اللاذقية وإدلب وحلب والرقة والحسكة، وكذلك في شمال العراق كركوك وأربيل والسلمانية، حيث تضع ذريعتها محاربة حزب العمال الكردستاني، ولا يمكن لأحد توقع انسحاب أردوغان من هذه الأراضي” حسب “يوسف”.
وأوضح وقتها أن “حديث أردوغان يؤكد الأطماع التركية في سوريا، وعدم نيته الانسحاب، إلا وكان قد اتفق مع الدولة السورية على تفكيك المجموعات الإرهابية المصنفة دولياً، وترحيل المقاتلين الأجانب والانسحاب من هذه المناطق، ومن ثم محاربة حزب العمال الكردستاني، لكنه لم يقدم على أي خطوة حتى الآن، ولم ينفذ اتفاق سوتشي لعام 2019، وغيره من الاتفاقيات ذات الصلة”.
وشدد حينها المحلل السوري على “أن الرئيس التركي بات شخصاً غير موثوق فيه، ويمكنه الانقلاب في أي لحظة على كل ما يعد به، حيث إنه لم يلتزم طول السنوات الأخيرة بأي تعهدات أو اتفاقات قام بعقدها في هذا الصدد”.
وبالفعل، وعوضاً عن الانسحاب، واصلت تركيا تعزيز قواتها العسكرية في محافظة إدلب، الخاضعة لتنظيم جبهة النصرة الإرهابي، علماً أن الجيش التركي وحده الذي يستطيع الدخول إلى المحافظة وإقامة القواعد العسكرية، دونما تعرض لأي مضايقة.
وبالصدد، أرسلت القوات التركية، منتصف يوليو، رتلاً عسكرياً ضم أكثر من 40 آلية عسكرية ولوجستية، إضافة لمدرعات وراجمات ودبابات، دخل عبر معبر كفرلوسين الحدودي إلى الأراضي السورية، وتوجه إلى النقاط التركية في جبل الزاوية جنوبي إدلب، وهو ما تكرر في نهاية يوليو، عندما دخل رتل عسكري ضم أكثر من 15 آليات عسكرية ولوجستية ومدرعة، عبر معبر كفرلوسين الحدودي إلى الأراضي السورية، متوجهة إلى النقاط التركية في ريف حلب الغربي، ولا تزال الارتال مستمرة بالتوافد بشكل دوري، دون انقطاع.
مساندة إيرانية لطلب الأسد
وفيما تأخذ روسيا دور الوسيط المفترض، صاحب المصالح المشتركة مع البلدين، كانت إيران أكثر جرأة من خلال دعواتها لجارتها الغربية للانسحاب من سوريا، إذ دعا وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في الأول من أغسطس الجاري، تركيا إلى سحب قواتها من سوريا، مشدداً على أن الخيارات العسكرية ليس “حلاً مناسباً”، وذلك عقب محادثات أجراها في طهران، مع نظيره السوري فيصل المقداد.
وقال عبداللهيان إنه “من المقترح أن تغادر القوات المسلحة التركية الأراضي السورية وتعود إلى مناطقها الحدودية وفقاً لجدول زمني”، معتبراً أنه “من المنطق ضمان أمن الحدود المشتركة بين البلدين، عندما تنسب تركيا إلى أراضيها”، وأن الاجتماعات الرباعية (روسيا وسوريا وتركيا وإيران) “أنسب وسيلة دبلوماسية للاتفاق على الحدود السورية التركية المشتركة وإرساء الأمن عليها”.
ليكون معها مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة معطلاً حتى إشعار آخر، في ظل تضارب مصالح القوى الكبرى، وتشجيعها أو ثنيها لأحد الطرفين أو كليهما على الولوج فيه، بينما تبقى عقدة المنشار في قضية الانسحاب التركي من الأراضي السورية، ومدى جدية تمسك السلطة السورية به كمطلب وطني سوري، بغض النظر عن وجهة نظر الساسة منه، كلاً حسب موقفه في المعارضة أو الموالاة.
وتفترض الوطنية، تلاحم أبناء الوطن الواحد، أياً كانت خلافتهم السياسية، لحماية حدود دولتهم، وإعادة المناطق المحتلة تحت أي ذريعة كانت، فتركيا التي وجدت ذرائع للتدخل في ليبيا، لن تعجز عن تبرير احتلالها لأي أرض سورية، تارة تحت مسمى “محاربة الإرهاب”، وتارة أخرى تحت ذريعة “حماية السوريين” من استبداد السلطة، وهي تنافق في الحالتين.