منذ بدء الصراع في سوريا، استخدمت تركيا، التركمان الذين ترتبط معهم برابط العرق، لتحقيق مكاسبها عبرهم، من خلال ادعائها الدفاع عن حقوقهم، فتحدثت خلال سنوات الحرب عن حقوق التركمان، وأسست لتلك الغاية فصائل عسكرية وجهات سياسية للنطق باسمهم، رغم أنه لم تبرز قبل الصراع السوري، أي أحزاب ذات صبغة تركمانية.
وتعداها الأمر فيما بعد، لاستخدامهم بغية تنفيذ مشاريعها الخاصة في سوريا، فسلمتهم قيادة المعارضة السورية، وحكومة المعارضة، وزعامة أكبر فصائل المعارضة المسلحة، كما جرتهم للخروج من مناطق كانوا يقطنونها سابقاً، خاصة في أرياف حمص، للتوطين في المناطق ذات الخصوصية الكردية، وعلى رأسها عفرين.
ولعل الأخيرة، أخطر المهام التي أوكلت للتركمان، أي إشراكهم بتغيير ديموغرافية المناطق الكردية في شمال سوريا، وهو ما يؤكد مراقبون بأنه سيحمل تبعات مُدمرة مستقبلاً، وتهديداً مُتواصلاً بالحرب الأهلية.
بهجلي يلتقي بالزعيم المزعوم لتركمان سوريا
وفي السياق، استقبل في السابع عشر من يوليو الجاري، متزعم حزب الحركة القومية التركيّةMHP، ويدعىدولت بهجلي، المدعو “فهيم عيسى”، متزعم فصيل “فرقة السلطان مراد”، المنضوي ضمن صفوف “الجيش الوطني السوري” المعارض، الذي قاتل في ليبيا وأذربيجان وعفرين ذات الخصوصية الكُردية شمال غرب حلب، بأوامر تركية.
وذكرت المواقع التركية اسم “عيسى”، الثلاثيّ وهو فهيم أرطغرل عيسى، ووصفته بأنّه زعيم تركمان سوريا، وقالت إنّ تمت مناقشة واستشارة مختلف القضايا المتعلقة بالوضع الحالي للتركمان السوريين، فيما قال بهجلي إنه يتابع النضال في سوريا عن كثب منذ اليوم الأول، وبعث تحياته إلى جميع المجتمعات الشقيقة، وخاصة إلى جميع القبائل والقبائل التركمانيّة التي تقاتل من أجل وطنهم في المنطقة.
فيما قال “عيسى” ضمن تصريح أشار فيه إلى الميثاق المليّ، الذي يضم أراضي تزعم تركيا أنها من حقها، تمتد من حلب إلى الموصل: “لقد قدمنا حبنا واحترامنا وتفانينا اللانهائي لرئيس MHP، الزعيم الحكيم للعالم التركي، تركمان باي، من الأرض التي قاتلنا فيها من أجل الإنسانية والوطن، حيث قال أتاتورك إنني رسمت الميثاق الوطني من هنا، هم مصدر ثقتنا، خصيصاً لهذا اليوم، أعطيناهم النسخة الأولى من قصيدة “الدولة” للتركمان ضياء كوكالب، المنظر العظيم للقومية التركية”.
كما أكّد عيسى أنّه يعمل من أجل مشروع تركمانيّ، فقال “يجب أن يطمئن المجتمع التركيّ في جميع أرجاء العالم، إلى أنّهم في الجيش الوطني يخوضون نضالاً يتناسبُ مع روح الأتراك في سوريا، في مناطق تركمانيّة عاشوا فيها لأكثر من 1000 عام”.
وكان قد تعهد “فهيم عيسى” في أكتوبر العام 2021، بتتريك سوريا والشعب السوري وضمّهم إلى ما سماها “المجلس التركي“، وقال في تغريدة، احتفالاً بيوم تعاون الدول الناطقة بالتركية: “نأمل بعد تطهير سوريا من نظام الأسد القاسي والمنظمات الإرهابيّة، أن تكون سوريا الحرة دولة يتم التحدث فيها باللغة التركيّة، وأن نكون في المجلس التركيّ“، وهو ما أثار وقتها، حفيظة السوريين وغضبهم.
بينما جاءت زيارة فهيم عيسى الأخيرة إلى تركيا، ولقائه بزعيم الحركة القومية بهجلي،بالتزامن مع تداول خبر انعقاد مؤتمر لتركمان سوريا والعراق، لم يتم إعلانه رسمياً،بالتوازي مع عرض خريطة لما زعم بأنها المناطق التركمانيّة في البلدين، والتي ضمت مناطق واسعة من سوريا، شملت ريفي حمص وحماه وشمال اللاذقية وصولاً إلى البحر مع محافظة حلب، وأجزاء كبيرة من محافظة الرقة ومحافظة الموصل العراقية وكركوك وصولاً إلى مندلي شرقاً على الحدود الإيرانيّة.
عاملان سلبيان: التبعية والسلاح
وحول الإشارة التي يسعى حزب الحركة القومية التركي، إرسالها للسوريين، من زيارة “فهيم عيسى”، قالت الدكتورة سميرة مبيض، عضو اللجنة الدستوريّة عن قائمة المجتمع المدني، لمنصة تارجيت: “عملت دول الجوار منذ بداية الثورة على استقطاب أطياف من الشعب السوري على أسس قومية أو مذهبية أو أيديولوجية، في محاولات لفرض الهيمنة والتوسع على حساب تدمير سوريا وتشريد أهلها، وكانت المساعي التركية في هذا السياق واضحة، عبر تشكيل وتمويل الميليشيات والفصائل المُسلحة لتسعى لتحقيق مصالحها”.
مردفةً: “اليوم، وفي ظل الأوضاع القائمة في الشمال السوري، تأتي هذه الزيارة لإظهار ولاء هذه الميليشيات كورقة ضغط تركية تستخدمها لفرض مسارات سياسية تتماشى مع محاولات التتريك ومع حملات اضطهاد السوريين المتزايدة في المناطق الحدودية، ويمكن اعتباره تهديداً مباشراً لجميع القوميات والثقافات السورية المتنوعة والتي تقيم في الأقاليم الشمالية، لأنه يعتمد على عاملين سلبيين، وهما التبعية والسلاح، وذلك يظهر عدم قدرة الحكومة التركية على تبني موقف حيادي يحترم التنوع السوري ويضمن الأمن في المنطقة”.
وبخصوص حقيقة تمثيل “فهيم عيسى”وجوقته، للتركمان السوريين، قالت “مبيض” لتارجيت: “تسعى الجهات التركية عبر هذه المحاولات الإعلامية، للترويج لقادة محليين يخدمون مساعيها في السيطرة العسكرية على هذه المناطق، وهي لا تعدو عن كونها مُجاراة لمساعي الجهات الأخرى في هذا السياق أيضاً، بحكم انفكاك الأقاليم الشمالية عن مركز الدولة السورية، نتيجة للانتهاكات التي ارتكبها نظام الأسد بحق السوريين وتشبثه بالحكم الشمولي، وبسبب فشل التشكيلات السياسية المُعارضة بحمل المسؤوليات اللازمة ودورها السلبي الذي أدى لانحراف مسار الثورة للحالة الكارثية التي هي بها اليوم”.
مستكملةً: “أدى ذلك الى تغييب وجود جهة تمثل السوريين بجميع مكوناتهم، وبروز حالة تصنيع وترويج كل جهة لمن يخدم مصالحها عسكرياً واستخدام الشباب السوري كوقود لحروب هذه الحكومات، وهنا تأتي أهمية دور التركمان السوريين في التعبير عن موقفهم تجاه هذه التجاوزات والانضمام للرؤى السياسية السورية التي تضمن لهم حقوقهم كمواطنين سوريين، وشركاء أصلاء في بناء الدولة السورية الحديثة القائمة على غنى تنوعها، وليس على الصراع”.
مُستدركةً: “بات الشمال السوري ساحة للصراع العسكري الذي يستنفذ الموارد والمقدرات البشرية، في حين أن دوره الهام هو كمرتكز جغرافي وسياسي ومدني للبدء ببناء المستقبل”.
مساع لاقتطاع الأراضي السورية
وحيال تصريح “فهيم عيسى” الذي أشار فيه إلى الميثاق المليّ، المتضمن جزءً من الأراضي السورية والعراقية، من حلب إلى الموصل، وعكس ذلك لمساعي تقسيم الأراضي السورية والعراقية وضمها لتركيا، أوضحت “مبيض” لتارجيت: “تعمل هذه الميليشيات عموماً بإمرة جهات تركية، ومساعي هذه الجهات باقتطاع أراضي سوريا أصبحت معلومة ولا تخفى على أحد، لكنها غير قابلة للتحقق لأسباب كثيرة”.
واستعرضت “مبيض” تلك الأسباب، فقالت: “أهمها، أن هذه الحقبة من التاريخ حملت ظلماً واضطهاداً لكثير من مكونات المنطقة من العرب، الكُرد، الأرمن، السريان وغيرهم، وهو تاريخ لا يمكن تدويره لا في الحاضر ولا في المستقبل، لكونه لم يحقق الأمن والاستقرار”.
مستطردةً: “في حين تفرض ظروف المنطقة والتحديات العالمية اليوم، تبني حلول تنهي الصراع وتضمن حقوق جميع مواطني هذه المناطق الجغرافية، والتي تعتبر تقاطعاً لحضارات إنسانية عديدة لا يمكن اختزالها أو تقييدها بتوجه قومي أو مذهبي”.
“فمن الوارد أن تحاول الحكومة التركية استخدام هذه الفصائل كأدوات لتحقيق تمدد وتوسع، لكن هذه المحاولات ستتم مواجهتها بشكل جذري من قبل أبناء هذه المناطق”، تؤكد عضو اللجنة الدستوريّة عن قائمة المجتمع المدني.
التركمان والتوسع القومي
وفي سياق تزامن الإعلان عن زيارة فهيم عيسى إلى تركيا مع خبر انعقاد مؤتمر لتركمان سوريا والعراق، وتداول خريطة مزعومة للمناطق التركمانيّة في البلدين، بيّنت “مبيض” لـتارجيت: “تعتبر تقسيمات الحدود، التي فُرضت على شعوب المنطقة نتيجة لتقاسم النفوذ بين قوى الصراع العسكري بعد الحروب العالمية، تقسيمات خاطئة لا تستند لأي رؤى علمية قابلة للاستدامة”.
وعللت رؤيتها لذلك بالقول:”تجاهلت تنوع البنى المجتمعية والثقافية وتوزع الموارد وكثير من العوامل التي تشكل ركائز سوية وسليمة لبناء الدول، والنتيجة اليوم، بعد قرن من الزمن، هذه المناطق متصارعة وتُطرح حولها مئات من الخرائط التي تزعم كل فئة بها سيطرتها على أراضِ دون أي ضوابط، ومنها الخريطة المُتداولة للمناطق التركمانيّة المزعومة”.
وأكملت: “أي مساع للتوسع القومي، سيقابلها مساعي توسع لقوميات أخرى، وستجد الجهات المتطرفة في هذه المجريات، ساحةً لتفريغ السلاح والايديولوجيات وخلق صراعات غير منتهية”.
“لذلك يتوجب على الساعين لبناء شروط آمنة وتأسيس دولة سوريا الحديثة، تجنب الانجرار إلى الغايات التي تكمن وراء الترويج لمثل هذه الخرائط، فهي تهدف لتصعيد الصراعات بين السوريين لصالح توسيع الهيمنة العسكرية لدول الجوار والاقليم، وذلك أمر مرفوض يتوجب مواجهته بمشروع سوري واضح لبناء الدولة السورية الحديثة، أرضاً آمنةً لجميع بنيها وبناتها”، تُشدّد “مبيض” لتارجيت.
التركمان وقيادة المعارضة السورية
وبخصوص إسناد الجانب التركي،لكثير من المناصب الكبيرة في حكومة المُعارضة وقيادة الفصائل المُسلحة للمُكون التركماني، رأت “مبيض” أن”تحقيق التناغم بين مكونات الشعب السوري، ليس من مصلحة الدول الساعية لاحتلال واقتطاع الأراضي السورية، لذلك عملت هذه الجهات منذ بدء الحراك المدني في سوريا، على تحويله لصراع مُسلح قابل للتحكم من قبل هذه الأطراف، عبر التمويل والأيديولوجية والتسليح”.
مُتابعةً: “هَيمن الجانب التركي على جزء من التشكيلات السياسية والعسكرية التي باتت أدوات لحرف مسار ثورة الشعب السوري، عوضاً عن أن تكون أدوات لتحقيق أهدافه، ويشكل ذلك تهديداً لجميع المكونات السورية بما فيها المكون التركماني، الذي يتم الزج به بمواجهات مسلحة مع أبناء بلده من عرب وكُرد وسواهم، في حين أن تحقيق الحياة الآمنة لهذه المكونات، يتطلب وجود استقلالية في القرار السوري، وامتلاك السيادة في الأقاليم الشمالية، التي تعتبر نموذجاً للتنوع المجتمعي السوري”.
وبالنسبة إلى رؤيتها للوضع في عفرين، ذات الخصوصية الكُردية،والتي تم تغيير ديمغرافيتها منذ سيطرة أنقرة وفصائل المُعارضة السورية عليها العام 2018، قالت “مبيض”: “تشهد عفرين على أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن يواجهها السوريون،إن لم يتم التصدي لهذه المساعي بالتغيير الديموغرافي، فاستخدام ذريعة أنها أراضِ سورية، يتم من قبل الجهات التركية، لتنفيذ أهداف التغيير السكاني فيها، وذلك عبر الدفع بالمهجرين من المكون التركماني أو غيرهم الى هذه المناطق تحديداً دون سواها”.
مُختتمةً: “رسالتي لجميع السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أن الأقاليم الشمالية السورية واسعة المساحات والموارد، وتستطيع استيعاب المُهجرين دون الإضرار بأبناء مُدنها وقُراها ودون تهجيرهم، لكن ذلك يتطلب إدارة سورية تنظر بعين المساواة والمواطنة الحقة لجميع أبناء سوريا، وليس لسياسات توسعية تقودها دول الجوار وتعمل على إشعال الفتنة والصراع بين السوريين أنفسهم لخدمة مصالحها، فقد آن للجميع إدراك المآلات الكارثية لهذه السياسات والتصدي لها، وبناء المسار السوري القادر على النهوض بالبلاد وبأهلها وضمان مستقبلهم”.
ليكون الرهان وفق السياسية لخلاص سوريا، قائماً على قدرة السوريين في نهاية المطاف، تجاوز تأثير القوى المُتدخلة بهم، وهي وإن كانت حقيقة بات جلّ السوريين في الداخل والخارج يدركونها، تبقى صعبة المنال في ظل الاستفادة الشخصية للطغمة المُتحكمة بالقرار في طرفي الصراع (السلطة والمعارضة) من ذلك التدخل والدعم المشروط، ولعل ما يحتاجه السوريون اليوم، “ثورة على الثورة، وعلى السلطة”، في آن.