ساقت الدولة التركية روايات مضطربة حول التفجير الذي شهدته منطقة تقسيم وسط مدينة اسطنبول يوم الأحد 13/11/2022، تشوبها الكثير من الشبهات والغموض في سيناريو ينقصه الكثير من الحبكة، وتحوي تناقضات في المعلومات التي قدمتها الأجهزة الأمنية والمسؤولين الأتراك دون تقديم أدلة دامغة وبراهين تثبت صحة ادعاءاتهم، كل ذلك لإلفاق التهمة إلى الكرد في هذا العمل الارهابي الذي تم إدانته قبل أي أحد من قبل القوى الكردية، حيث راح ضحيته 6 مواطنين مدنيين وجرح 81 شخص آخرين، ويبدو أن الكرد هم من المدانين الأوائل وتحت الطلب في أي عمل بحسب العقل السياسي التركي وبعده تأتي حركة غولن الاسلامية ومن ثم تنظيم داعش.
الرواية الحكومية الرسمية
لم تمض ساعة واحدة على دويّ التفجير الذي حدث في شارع السلام المتفرع من ميدان تقسيم وسط مدينة اسطنبول، حتى فرض المجلس الأعلى للبث الاذاعي والتلفزيوني للدولة التركية قيوداً على الوصول إلى جميع مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد، وحظر تغطية الانفجار، ليخرج بعده الرئيس التركي عبر بث متلفز من مطار أتاتورك باسطنبول وهو يتجهّز للمغادرة إلى اندونيسيا لحضور قمة العشرين، مع وفد ضم كبار أركان حكومته إلى جانب عقيلته أمينة أردوغان، مشيراً إلى أن التفجير ناجم عن عمل إرهابي وأن إمرأة متورطة في ذلك، حتى قبل معرفة آلية التفجير وعدد الضحايا بدقة من قبل المحققين، لتكون هذه بداية الرواية الحكومية الرسمية.
أما وزير الداخلية سليمان صويلو الذي كان متواجداً في بلدة الراعي التابعة لمدينة الباب حيث كان يشرف على سير عمليات التتريك وبناء المستوطنات في الشمال السوري، فور وصوله إلى مكان الحادث وجّه أصابع الاتهام إلى وحدات حماية الشعب الكردي “”YPG، وأعلن رفضه للتعزية الواردة من السفارة الأمريكية في أنقرة، داعياً إلى إعادة النظر في شراكة تركيا مع واشنطن التي “تدعم مناطق الادارة الذاتية وترسل الأموال إلى قوات سوريا الديمقراطية لإفساد استقرار بلاده” بحسب زعمه، معلناً ألقاء القبض على الفتاة المسؤولة عن التفجير بعد رصد تسجيلات “1200” كاميرة مراقبة وقال: أن الفتاة المسؤولة عن عملية التفجير تعود بأصولها إلى مدينة كوباني شمال سوريا وهي من الاستخبارات الخاصة التابعة للوحدات الكردية “YPG” دخلت الأراضي التركية عبر مدينة عفرين المحتلة بطرق غير شرعية.
تصريحات صويلو تعتبر هي الرواية الرسمية الوحيدة التي ساقتها الدولة التركية بشأن تفجير اسطنبول، والتي شابتها الكثير من الغموض والتكهنات منذ اليوم الأول بسبب ما حملتها من تناقضات في المعلومات، حيث أن الفتاة التي عرفت فيما بعد باسم “أحلام البشير” والمسؤولة الأولى عن العملية دخلت الأراضي التركية قبل اسبوع من موعد التفجير بحسب وزير الداخلية، ومن ثم يتم التعديل إلى أربعة أشهر في حين ذكرت بعض وسائل الاعلام التركية نقلاً عن سكان من الحي التي سكنتها البشير أنها تعمل في معمل سوري منذ أكثر من سنة، كما صرح صويلو أن العقل المدبر ومصدر الأوامر لمنفذة العملية من مدينة كوباني ليناقض نفسه بنفسه في تصريح آخر بأن الأوامر صدرت من شخص يحمل اسم “حجي” في مدينة منبج، وبعدها يذكر صويلو أن الأمر صدر في مدينة القامشلي.
وعن جنسية الفتاة “أحلام البشير” أورد وزير الداخلية التركي أن الفتاة كردية من مناطق الادارة الذاتية تنتمي إلى استخبارات الوحدات الكردية “YPG”، وهذا ما نفته دائرة العلاقات الخارجية في الادارة الذاتية التي أكدت أنه لا توجد في قيود مناطقها فتاة تحمل هذا الأسم، بينما التحقيقات الأمنية التي نشرتها وكالة الأناضول الرسمية أشارت إلى أن البشير تحمل الجنسية السورية وهي من أصول عربية مواليد 1999، بحسب الوثائق التي تمت ضبطها بحوزتها “جواز سفر” رغم أنها دخلت بطرق غير شرعية والتي لا تحتاج إلى جواز سفر، وهذا ما خلق الكثير من الشكوك لدى المتابعين والصحافة المحلية والدولية ودفعتهم للتقصي حول جنسية الفتاة.
جنسية منفذ التفجير
إلى يوم السبت 19/11/2022، قالت السلطات التركية أنه تم اعتقال نحو 65 شخص، بينهم 5 أشخاص تم اعتقالهم من قبل السلطات البلغارية، قدموا صنوف أشكال التعاون والدعم لمنفذة عملية اسطنبول “أحلام البشير”، في أكبر خلية مرت على تاريخ هكذا عمليات، بعضهم من الجنسية السورية والبعض من الجنسية التركية موالون لحزب العمال الكردستاني بحسب زعم حكومة أنقرة، فيما لا تزال الشكوك تلف حول جنسية الشخصية الرئيسية “أحلام” نفسها وحقيقة سوريتها خاصة وأن ملامحها لا توحي أبداً أنها من أصول سورية.
من جهتها شككت صحيفة “هادية ليفنت” التركية في الرواية الحكومية حول جنسية منفذة هجوم إسطنبول “أحلام البشير”، وسوريّتها ونقلت عن وسائل إعلام وجود احتمال كبير بأنها من الصومال، وقالت الصحيفة أنها توصلت إلى حقيقة مفادها أن “البشير” من شمال أفريقيا، وأشارت إلى تناقضات بشأن تاريخ دخولها إلى تركيا وإن كانت عبر عفرين أم لا، ولا سيما بعد ظهور فتاة أخرى تحمل الجنسية الصومالية وذكرت في مقطع مصور متداول أنها شقيقة أحلام وطالبت بالافراج الفوري عنها لأنها بريئة وشككت بما نسبت إليها من اتهامات.
كما لفتت “ليفنت” في تقرير لها إلى أخبار تم تداولها حول تنفيذ جهاز الاستخبارات التركية حملة أمنية ضد المسلحين من الفصائل السورية التابعة لها في إدلب وعفرين بعد يوم واحد من التفجير، وأنباء عن اعتقال 17 شخص من مسلحي تلك الفصائل مع ذكر اسم فرقة الحمزات.
من يقف وراء التفجير؟
بعد كل هذا التناقض والغموض في الرواية الأمنية للحكومة التركية والتي أثارت الكثير من الشكوك والشبهات، دفعت الكثير من الأطراف والمحللين السياسيين داخل تركيا وخارجها إلى السؤال عمن يقف وراء تفجير اسطنبول ومن المستفيد منه.
نشر الكثير من التكهنات والتحاليل على مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات، والتي أجمعت كلها حول أن ما أوردتها الحكومة التركية حول الهجوم ما هي إلا مسرحية هزيلة غير محبوكة في السيناريو الذي أعدّ لها، والبعض اتهم جهاز الاستخبارات ودائرة الحرب الخاصة بالوقوف ورائها، فيما ذهب البعض الآخر باتهام حليف أردوغان الأول زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي بتنفيذها، كل ذلك لأسباب تتعلق بقضايا على المستوى الداخلي والاقليمي، تخص الانتخابات القادمة في البلاد وحاجة أردوغان إلى ترميم شعبيته المتهاوية وممارسة المزيد من الضغط على حلفائه في الناتو والدول الفاعلة في الملف السوري للحصول على تأييد بشن عمل عسكري ضد القوات الكردية وقضم أراضي أخرى في سوريا، فضلاً عن اللعب بأوراق سياسية أخرى حول قضايا الحرب الروسية الأوكرانية وملف طائرات “إف 16” الأمريكية وعضوبة السويد وفنلندا في حلف الشمال الأطلسي، كما أن التفجير جاء بعد أيام قليلة من مباحثات جمعت بين أردوغان وحزب الشعوب الديمقراطي “HDP” حول تعديل الدستور، وقبل ساعات قليلة من قمة العشرين في اندونيسيا.
أوردت صحيفة زمان التركية في تقرير لها، أن التحقيقات بيّنت بأن المتهمة الرئيسية في عملية التفجير أحلام البشير أجرت مكالمتين على خط هاتفي مسجل باسم محمد أمين إلهان وهو أمين حزب الحركة القومية في منطقة “جوتشلوقاناك” بولاية شرناق، فيما نقلت قناة تلفزيون “إن تي في” في تقرير بهذا الشأن، أن “أحلام البشير” اعترفت في التحقيقات أنها لم تكن وحدها أثناء تنفيذ العملية وكان هناك من يراقبها من الوراء وأنها تلقت أمر التفجير من مكان الحدث، مستدركة إنها حين كانت جالسة على مقعد نظر شخص يحمل الاسم الرمزي “حاجي”، وأمرها بتفعيل القنبلة، وحاجي هو الشخص الذي من المفترض أنه كان في منبج بحسب رواية وزير الداخلية عندما أصدر الأوامر، وهنا لا بد من التساؤل من يكون “حاجي” هذا وهل هو نفسه صاحب الاسم الحقيقي محمد أمين إلهان القيادي في حزب الحركة القومية أم شخص آخر.
بعد يومين من التفجير أعلن الأمن التركي اعتقال ما وصفه بالعقل المدبر لهجوم اسطنبول “عمار جركس” قبل هروبه إلى بلغاريا، الذي يفترض أنه تلقى أوامر من مدينة القامشلي السورية من شخص يدعى “خليل منجه” بقتل منفذة الهجوم “أحلام البشير” بحسب تصريحات صويلو، إلا أن بعض وسائل الاعلام التركية نشرت صور للشخص الذي وصفه الأمن التركي بالعقل المدبر للعملية وهو يرتدي بزة عسكرية تعود إلى فصائل الجيش الوطني التابع لتركيا.
بدوره، رفض الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي “PYD” صالح مسلم اتهامات الدولة التركية والمسوغات التي ساقتها حول هذا الاتهام حاله كحال الادارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية الذين نددوا بهذا العمل الاجرامي الذي طال المدنيين في أكثر المناطق التي من المفترض أن تكون أمناً باسطنبول وتحوي العشرات من كاميرات المراقبة العائدة للحكومة وأخرى لأصحاب المحال والأهالي، وأكد مسلم أن فصائل الجيش الوطني التابع لتركيا تقف وراء هذا العمل بتخطيط وتدبير من إدارة الحرب الخاصة التركية للتأثير على سير العملية الانتخابية المقبلة وتنفيذ هجمة جديدة على مناطق الادارة الذاتية، موضحاً أنه بالعودة إلى الصفحة الرسمية للفتاة “أحلام البشير” على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر شارات تعود إلى الفصائل السورية المسلحة فضلاً أنه لا يوجد قيود لها في مناطق الادارة الذاتية.
بدورها، قالت المتهمة الرئيسية في هذا التفجير “أحلام البشير” خلال افادتها أن شقيقها “محمد البشير” قائد كبير في الجيش السوري الحر التابع لأنقرة، فيما أكدت منصات إعلامية تابعة للفصائل السورية المسلحة، أن “محمد البشير” الملقب بـ “أبو فياض الحديدي” كان من أحد مسلحي تنظيم داعش الإرهابي وحالياً يعمل كقائد عسكري ضمن فصيل العمشات الذي يقوده محمد الجاسم “أبو عمشة” المقرب من الاستخبارات التركية.
أردوغان الذي رفض في تصريحات للصحفيين الأتراك بجزيرة بالي الاندونيسية ربط التفجير بالانتخابات المقبلة في البلاد وهاجم المعارضة التركية التي تسوق مثل هكذا روايات، أصر على اتهام الأطراف الكردية.
مظلوم كوباني يكشف لأول مرة في الاعلام
بدوره كشف الجنرال مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مؤخراص عن معطيات جديدة عن تفجير إسطنبول يشاركها لأول مرة في الاعلام، وقال: “إن عائلة المتهمة بالتفجير منتسبة إلى تنظيم الدولة “داعش”، ويقود أحد أفراد العائلة فصيل معارض في الجيش الوطني الموالي لتركيا.
جاء هذا في مقابلة خاصة مع المونيتور اجريت يوم الثلاثاء 22 نوفمبر، وقال عبدي: “إنهم أجروا بحوثاً حول الحادثة وتبين معهم، أن المرأة التي تم القبض عليها والمتهمة بزرع قنبلة تفجير شارع تقسيم بإسطنبول، تنحدر من عائلة مرتبطة بـ “داعش”، موضحاً أن ” ثلاثة من أشقائها لقيوا حتفهم وهم يقاتلون في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية، مات واحد في الرقة، وآخر في منبج والثالث في العراق”. وأشار إلى أن “شقيق آخر هو قائد في الفصائل السورية المدعومة من تركيا في عفرين”
ونوه عبدي الى أن تلك الامرأة (أحلام البشير) نفسها كانت متزوجة من ثلاثة عناصر من تنظيم داعش، وأكد في السياق إنه “لا علاقة لنا مطلقاً بالقصف وليس لدينا مثل هذه السياسة”، وتابع “كان عملاً استفزازياً تم تصوره من قبل الحكومة التركية من أجل تمهيد الطريق للحرب ضدنا”.
هذا وكانت تركيا قد خططت لهذا التفجير لخلق ذريعة للحرب ضد مناطق الادارة الذاتية متهمة الكرد بتنفيذها وأن هذا الامرأة قد دخلت الى تركيا من كوباني عبر عفرين، ومن ثم ظهر أنها أصلاً دخلت من مناطق ادلب، بروايات متضاربة لا تنم عن حقيقة، ناهيكم عن التحقيقات غير الشفافة واخفاء النتائج الحقيقية، وتسريب اتهامات مفبركة لتمهد الطريق لشن عدوانها على المنطقة.