يبدو أن مسألة التقارب بين النظامين السوري والتركي وعودة العلاقات تقترب يوماً تلو الآخر، وقد دلل على ذلك ما ذكرته وسائل إعلام مقربة من الحكومة التركية بشأن محادثات مرتقبة بين الجانبين لتطبيع العلاقات، لكن هناك شروطاً متبادلة لا سيما رغبة حكومة بشار الأسد في عودة “إدلب” تحت سيطرتها في إطار خارطة طريق يتم التفاهم بشأنها.
وقد تزامنت تسريبات وسائل الإعلام التركية مع تجديد روسيا قبل أيام استعدادها للقيام بمزيد من الجهود لاستئناف محادثات تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة المتوقفة منذ اجتماع أستانا في يونيو/حزيران الماضي والتي جرت على مستوى وزراء خارجية تركيا وحكومة دمشق وإيران وروسيا، لكنها لم تسفر عن تقدم ملحوظ في هذا الملف.
مطالب متبادلة بين النظامين التركي والسوري
وقد شهدت الأشهر الماضية تصريحات متبادلة بين بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن تطبيع العلاقات وحديث الاثنين عن اشتراطات، وقد رافق ذلك اجتماعات على المستويات الأمنية بين البلدين، لكن عديداً من المراقبين يرون أن التقارب بينهما قد يحمل صفقة تتعلق بالأساس بوضع مناطق شمال وشرق سوريا.
وبحسب الإعلام التركي، فإن دمشق طرحت شرط السيطرة الكاملة على الممر التجاري بين سيلفيجوزو ودمشق والطريق الدولي “إم فور” مع مدينتي دير الزور والحسكة شرق سوريا، إلى جانب دعم أنقرة مسألة رفع العقوبات الغربية والأوروبية على رجال أعمال سوريين والشركات ذات الصلة بحكومة دمشق.
في المقابل، فإن الجانب التركي طالب بإخلاء السكان الكرد بشكل كامل من المناطق الواقعة على الشريط الحدودي السوري – التركي، وأن تعمل حكومة دمشق على مكافحة وجود المجموعات الكردية المسلحة في مناطق شمال وشرق سوريا في إشارة إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وحديث من أنقرة كذلك عن العودة الآمنة للاجئين السوريين الذين تستضيفهم منذ بداية الأزمة في عام 2011.
التطبيع وارد في أي وقت
في هذا السياق، يقول الدكتور بشير عبدالفتاح الخبير في الشأن التركي إن مسألة عودة العلاقات بين دمشق وأنقرة أمر وارد في أي وقت، فبصفة عامة طبيعة العلاقات الدولية تقول إن كل السيناريوهات واردة فيها، ومن الممكن أن يحدث تفاهم بين النظامين السوري والتركي في أي لحظة مهما كانت القضايا الخلافية بين الجانبين، ومنطق الأمور يقول إنه لا يمكن أن تستمر حالة القطيعة بين الجانبين إلى الأبد.
وأوضح “عبدالفتاح”، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، أن مسألة استعادة العلاقات يمكن تفهمه من ناحيتين، الأولى حالة الاستدارة الواضحة لدى الحكومة التركية خلال الفترة الماضية بشأن علاقاتها الخارجية وتحسينها مع الدول العربية بشكل كبير بدلاً من الصدام والمواجهة وقد ظهر ذلك مع مصر والإمارات والسعودية، وعلى نفس الطريقة يمكن أن نرى تفاهمات بشأن علاقات مع حكومة دمشق.
ويرى “عبدالفتاح” أن سبباً آخر يدفع لإمكانية عودة العلاقات بين الجانبين هو أن سوريا تمثل بوابة مهمة ورئيسية لتركيا إلى العالم العربي في ظل حالة الاستدارة الحالية لدى النظام التركي، ومن ثم رغم الخلافات الكبيرة والتي تتمحور حول مناطق الشمال السوري أو شمال وشرق سوريا والوجود الكردي ووجود القوات التركية في المقابل.
وأكد الخبير في الشأن التركي على أنه قد يكون هناك خروجاً للقوات التركية من تلك المناطق وعودة إدلب إلى حضن النظام السوري، مقابل أن يلعب الأخير دوراً في قطع خطوط الإمداد الموجهة إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وسيطرة دمشق على مناطق الحدود، مشدداً على أنه مهما كانت حدة الخلافات إلا أنه في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة من الممكن أن نرى تفاهمات أو تطبيعاً للعلاقات ما بين أنقرة ودمشق.
موقف روسي يلعب على كل الأحبال
على الصعيد الروسي، صرح السفير الروسي لدى تركيا أليكسي يرهوف، لصحيفة “ديلي صباح” التركية، بأن روسيا لا تزال على استعداد لبذل كل جهد ممكن لتعزيز عملية التطبيع التركي السوري، موضحاً أنه لهذا السبب تم إنشاء الصيغة الرباعية الخاصة التي تتألف من ممثلي روسيا وتركيا وسوريا وإيران، لافتاً إلى أنه يمكن أن تكون هناك بعض الخلافات، لكن هذه الخطوة تصب في مصلحة الشعبين التركي والسوري، على حد قوله.
عن الموقف الروسي من تلك التطورات، يقول الدكتور نبيل رشوان الخبير في الشأن الروسي، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن روسيا لم تكن أبدأ متضررة من مسألة التقارب بين أنقرة ودمشق، بل على العكس فهي ترى أن العلاقات المتوترة والمشدودة بين الجانبين تأتي على حساب علاقتها مع الطرفين.
وأشار “رشوان” في هذا السياق إلى أنه رغم ذلك فإن الملفات الخلافية بين أنقرة ودمشق كثيرة، خصوصاً ما يتعلق بالمساع التركية لإقامة منطقة عازلة في شمال وشرق سوريا، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الروس ليس لديهم أي اعتراض على إقامة تلك المنطقة على الحدود السورية – التركية، ولكن ربما كان هناك خلاف حول مساحتها.
ولفت إلى أن موسكو كذلك عملت على الحفاظ على علاقات جيدة لها مع الكرد حتى لو لم تكن تعارض مسألة إقامة المنطقة العازلة، كما أن هناك تنسيق بين روسيا وتركيا في أدلب، وموسكو حريصة على الحفاظ على هذا التنسيق، لأن إدلب قريبة من القواعد العسكرية الروسية في غرب سوريا.
وبشأن وجهة موسكو تجاه الكرد من أي اتفاق بين تركيا والنظام السوري في حال أتى على حسابهم، يرى الدكتور نبيل رشوان أن روسيا كل ما يمهمها مصالحها، وتلك المصالح تكبر يوم تلو الآخر مع الأتراك، فروسيا تبني محطة نووية في تركيا الآن ولديهما تعاون كبير في مجال الغاز، وعند الضرورة لا يتصور أن تضحي موسكو بـ”أنقرة” من أجل الكرد.
وتطرح موسكو فكرة العمل بين حكومتي دمشق وأنقرة في إطار معاهدة أضنة الموقعة عام 1998 بشأن مناطق الكرد في شمال وشرق سوريا، إذ تجيز للقوات التركية التوغل في العمق السوري على مساحة تصل إلى 5 كليومترات، مع إمكانية تطويرها ليصبح من حق الأتراك التوغل لمساحة تصل إلى 30 ألف كيلومتراً، لكن تسريبات رافقت اجتماعات أستانا الأخيرة أشارت إلى أن أنقرة تريد مساحة أكبر من ذلك.
وتشير تسريبات الإعلام التركي كذلك إلى أنه بالعودة إلى اتفاقية أضنة تريد حكومة دمشق دعماً من أنقرة للسيطرة على مدينة إدلب الخاضعة لسيطرة جماعات مسلحة وإرهابية موالية للنظام التركي، مقابل إبرام اتفاقية حدودية جديدة.
عودة اللاجئين السوريين وفق رغبات تركيا
ومن بين ما تطرحه تركيا مسألة العودة الآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، إلا أن أنقرة كانت طرحت خلال مباحثات أستانا كذلك إقامة مناطق معينة تصفه بـ”الآمنة” لاستقبال هؤلاء العائدين إلى دولتهم، لكن ذلك التوجه يثير قلق المكون الكردي، لما يحمله من تلاعب بالتركيبة الديمغرافية في مناطق شمال وشرق سوريا.
من جهته، يقول حازم العبيدي المستشار السياسي لمركز الرافدين للعدالة وحقوق الإنسان في جنيف إن الإشكالية تكمن في أن تركيا تريد عودة للاجئين على هواها، أي من خلال إقامة مستوطنات في مناطق شمال وشرق سوريا تدعي أنها توفر من خلالها ظروفاً مواتية لهؤلاء اللاجئين، لكن في الواقع فإنها تريد طمس هوية تلك المناطق وتغيير ديمغرافيتها، وهو أمر يرتقي إلى وصفه بجريمة حرب، لأن ما سيجري وقتها هو تهجير سكان وإحلال آخرين محلهم.
وأضاف “العبيدي”، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، أن المشكلة ليتها ستتوقف عند هذا الحد، بل ستخلق فتنة لن يمحوها الدهر بين الشعب السوري من العرب والكرد، لأن السوريين العرب سيبقون في نظر أجيال وأجيال من الكرد هم من دخلوا مناطقهم واستولوا على أرض أجدادهم بدعم تركي وبقوة السلاح التركي، وهذا الأمر سيكون له انعكاسات مجتمعية خطيرة وعلى بنية المجتمع السوري ككل.
وتشير تسريبات الإعلام التركي إلى أن أنقرة عرضت مساعدة حكومة دمشق في نقل السيطرة على النفط السوري إليها، فيما طلب النظام السوري دعماً تركياً في مجالات بناء السدود والطرق والمؤسسات التعليمية، مؤكداً أنه سيحترم قرارات الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني فيما يتعلق بعودة اللاجئين.
يذكر أنه قبل أسابيع اندلعت اشتباكات عنيفة في مدينة دير الزور بين قوات كردية ومجموعات موالية لتركيا وأخرى موالية لإيران وحكومة دمشق كانت تهدف بالأساس إلى إخراج الكرد من مناطق سيطرتهم بدير الزور، لتقدم تلك الأحداث وقتها دليلاً إضافياً على أن تطبيع العلاقات وارد في أي وقت وأنه سيرافقه بلا شك تنسيق بين أنقرة وطهران ودمشق في مواجهة تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.