قبل أيام قليلة صرح وزير الزراعة التركي إبراهيم يومقلي بأن بلاده ستعاني شحاً مائياً بحلول عام 2030، وهي التصريحات التي أثارت ردود أفعال قلقة لدى السوريين والعراقيين، لا سيما أن كثيراً من المراقبين يرون أن تركيا لا يمكن أن تعاني شحاً مائياً، وذهبوا إلى أبعد من ذلك بأن هذا التصريح يعني واقعياً بداية الخطط التركية لإفقار الشعبين السوري والعراقي مائياً.
وتكمن الإشكالية في أن نهري دجلة والفرات ينبعان من حوض الأناضول ثم يمران إلى سوريا والعراق حتى يلتقيا في البصرة فيشكلا شط العرب، وتنطبق عليهما تماماً قواعد الأنهار الدولية، إلا أن تركيا تتمسك دائماً بأنهما نهرين تركيين، في الوقت الذي يعتمد العراق كلية على نهر الفرات في حصصه المائية، كما أن سوريا تعتمد عليه بنسبة 90%، وهنا يصطدمان بأطماع الأتراك القائمة على مدار التاريخ.
مزيد من الإفقار المائي لسوريا والعراق
في هذا السياق، يقول الباحث والأكاديمي الدكتور علي ثابت، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن ملف المياه يمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعوب، ووفق الخبراء فإن منطقة الشرق الأدنى تعانى وسوف تعانى من شح مائي، كما أن المواثيق الدولية تنظم هذا الأمر ما بين دول المنبع ودول المصب، ولكن الجانب التركي يتعامل مع ملف المياه في المنطقة وفق مصلحته دون مراعاة مصلحة دولتي المصب سوريا والعراق.
وأوضح “ثابت” أن ذلك اتضح من بناء سد “إيليسو” عند منبع نهر دجلة ومجموعة سدود أخرى فرعية، وبناء عليه تتحكم تركيا في حصص المياه التي تصل إلى سوريا والعراق، واللذان يعانيان بشدة من الشح المائي، بل أكثر من هذا، وللأسف تستخدم تركيا ملف المياه كأداة ضغط على العراق في ملف الطاقة وإجبارها على أخذ حصة مقابل استمرار تدفق المياه ببطء إليها.
وقال الأكاديمي المصري إن الشعب الكردي في شمال سوريا يتم حرمانه من الماء، في ظل أنه يشكل قوة ضاغطة كبيرة على تركيا، وبالتالي يتم فرض ظروف معيشية قاسية على الكرد في مناطق شمال وشرق سوريا، والأكثر بشاعة محاولات قمع ثورته بطرق يعاقب عليها القانون الدولي الذي يجرم الانتهاكات التي يقوم بها النظام التركي.
أما عن تصريح وزير الزراعة التركي، يرى “ثابت” أنه ما هو إلا إشارة البدء في ملء الخزانات التركية لمواجهة الشح المائي، والتي تعني على الفور مزيداً من الفقر المائي لسوريا والعراق، واستخدام ملف المياه كأداة ضغط قوية على العراق وسوريا، لكنه أكد أنه يجب الحذر كل الحذر لأن ملف المياه قنبلة موقوته تتخطى حدود الحكومات والسياسة.
وأوضح أن المياه مسألة حياة أو موت لشعوب المنطقة، لذا فإن أسس التعايش السلمى هي السبيل الأوحد لحل معظم مشكلات المنطقة، وليس منطق القوة الذي تستخدمه تركيا، بل وتجيد استخدامه أثناء انشغال المجتمع الدولي بقضايا عدة تؤثر على الرأي العام العربي خصوصاً والمجتمع الدولي عموماً، والتصريحات الرسمية التركية لا تقول إلا معنى واحد وهو: “تعيش تركيا ويموت ما دون ذلك”، وهذه هي الطورانية في ثوبها الجديد.
سدود تركيا وهيمنة تامة على مياه دجلة والفرات
وفي ضوء الهيمنة التركية على المياه، أطلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مشروع سد إليسيو الذي يبلغ منسوب ارتفاعه 530 متر كأكبر سد يتم تنفيذه على نهر دجلة، وفكرته كانت تعود إلى السبعينيات وقد أثار من قبل مخاوف بشأن تضرر عديد من المناطق الكردية في تركيا، وإزالته آثاراً تعود إلى عصور عدة، والأخطر والأهم أنه سيشكل خصماً كبيراً من حصص المياه المتدفقة إلى العراق.
كما تسير تركيا قدماً في مشروع غرب الأناضول الذي يتكون من 22 سداً، وهذا المشروع بحسب بيانات سابقة لوزارة الموارد المائية العراقية في حال اكتماله سيشكل أزمة كبيرة للعراق، إذ أن المعدل السنوي لواردات نهر دجلة تبلغ 19.43 بليون متر مكعب ومع كل روافده تبلغ 49.48 بليون متر مكعب، لكن مع اكتمال المشروع ستنخفض بشكل كبير لتصل إلى 8.45 بليون متر مكعب فقط.
أما نهر الفرات فتبلغ عائداته 30.3 بليون متر مكعب، ومن المتوقع أن تتراجع إلى 9.16 بليون متر مكعب من المياه باكتمال بناء مشروع غرب الأناضول المكون من 22 سد عملاق، وبالتالي إن الأرقام تشير إلى أن “أنقرة” ستصبح لديها سيطرة تامة على نحو 80% من مياه نهري دجلة والفرات أو ما يزيد على ذلك، وهو ما يهدد العراق وسوريا بالجفاف والتصحر.
إما اتفاق جديد أو التزام بقواعد المنبع والمصب
بدوره، يقول محمود خوشناو القيادي بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بالعراق، في تصريحات لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إنه لا يعتقد أن تركيا يمكن أن يحدث عندها مشكلة مائية، وفي كل الأحوال نأمل أن يتم التوصل إلى اتفاق جديد بشأن تقاسم حصص المياه، أو على الأقل أن يكون هناك التزام بقواعد دول المنبع والمصب فيما يتعلق بحصة المياه العراقية.
وأضاف “خوشناو” أنه لا تركيا أو غيرها يمكنها تحقيق نتائج في قضية استخدام ملف المياه كورقة ضغط سياسية، وفي كل الأحوال نحن كعراق وتركيا وسوريا وإيران دول جوار وكذلك دول الخليج، ولذلك يجب أن تكون العلاقة بيننا كجيران علاقة طيبة، ولا يجب أن تكون مضطربة، ولهذا كما قلت نأمل التوصل إلى اتفاق جديد أو على الأقل الالتزام بالاتفاقيات الدولية الخاصة بتقاسم حصص المياه بين دول المنبع والمصب.
ولفت إلى أن “أنقرة” لم تطلق حصص العراق المائية، وفي نفس الوقت العراق لم يدير المياه إدارة صحيحة، وهناك كثير من الأمور يجب أن يتم حلها، فهي ليست قضية تركيا فحسب، فهناك مستخدمين لا يزالون يستخدمون المياه بطرق تقليدية وقديمة تشكل هدراً لها أو ما تسمى بـ”الطرق السومرية”، وفي نفس الوقت يجب أن يتم التوصل إلى حل مع الجانب التركي بخصوص هذا الملف.
وينبع نهر الفرات من تركيا ثم يعبر إلى سوريا بطول 610 كلم، ثم يقطع العراق بمسافة 1160 كلم، وقد بدأ الجانب التركي منذ الستينيات سلسلة بناء السدود على النهر، وصولاً إلى أنه في 4 مايو من عام 2021 انخفض منسوب نهر الفرات لأول مرة في التاريخ 5 أمتار، على نحو ينذر بتهديد حياة ملايين السوريين والعراقيين، وفق تقرير سابق لشبكة “دويتشه فيله” الألمانية.
وجاءت أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي” عام 2011 لتشكل فرصة مناسبة لتواصل تركيا حرمان سوريا والعراق من حصصهما المائية، حيث ذكرت منصة “كلايميت ديبلوماسي” أن نقص المياه أدى إلى زيادة الملوحة والتلوث في التربة، ما أثر على الزراعة في الدولتين وهو ما ينعكس على حياة شعبيهما، ولن تقتصر الأضرار على قطاع الزراعة فقط بل ستصل إلى كثير من القطاعات.