لم تخفِ القيادة التركية منذ بداية أكتوبر الجاري، نيتها تدمير البنية التحتية في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في معرض ردها على هجوم طال مبنى وزارة الداخلية التركية في أنقرة، بتاريخ الأول من أكتوبر الجاري.
ربطٌ لا يزال موضع استهجان واستغراب، ففي الوقت الذي أكد فيه مظلوم عبدي، القائد العام لـ قوات سوريا الديمقراطية، عدم وجود علاقة بين قواته والهجوم على أنقرة، أصرت أنقرة على الانتقام من مكان لا صلة له بالهجوم، واستهداف مقرات ومنشآت ومؤسسات خدمية لا علاقة لها ليس بالهجوم فحسب، بل وليس لها علاقة بالعسكرة كلها.
إصرار تركي على الاستهداف
إذ زعم وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في الرابع من أكتوبر، أنه تم التأكد من أن منفذي هجوم أنقرة جاءا من سوريا، وذكر أن جميع مرافق البنية التحتية والبنية الفوقية التابعة لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في العراق وسوريا، وكذلك نقاط الطاقة، أصبحت أهدافاً مشروعة.
ليبدأ بعدها في الخامس من أكتوبر، قصف تركي مروع ومجنون، طال كامل منشآت البنية التحتية في شمال سوريا، من كوباني إلى المالكية\ديريك، مستهدفاً منشآت الكهرباء والمياه والغاز والقمح، أي استهداف كل ما يتعلق بالحياة اليومية لنحو 6 ملايين إنسان، يقطنون في المنطقة، من مختلف المكونات والأعراق والديانات والطوائف.
وعقب الهجمات التركية على شمال وشرق سوريا، أصدرت قوات سوريا الديمقراطية في السادس من أكتوبر، بياناً وصفت فيه الهجوم التركي بـ“الجبان”، كونه استهدف “مؤسسات خدمية واقتصادية ومحطات الطاقة النفط والكهرباء والمياه”.
وقالت “قسد” في بيان لها، إن “تركيا بدأت الخميس\5 أكتوبر، بشن هجومٍ واسعٍ على مناطق شمال وشرقي سوريا، مستغلةً عملية أنقرة ذريعة لها، رغم عدم وجود أي دليل حول الاتهامات التي وجهتها لقواتنا بانطلاق منفذي العملية من مناطقنا”.
موضحةً أن الهجمات التركية طالت معظم المؤسسات الخدمية والاقتصادية ومحطات الطاقة (النفط والكهرباء) والمياه، إضافة إلى بعض المقرات العسكرية والمنشآت المدنية والقرى الآهلة بالسكان، وهو ما أقرت به وزارة الدفاع التركية، التي قالت في الخامس من أكتوبر، إنها قصفت منشآت وبنى تحتية في شمالي سوريا، مؤكدةً إنها دمرت 30 هدفاً.
اتفاقية سلام
بينما ظهر جلياً من الهجمات التركية التي تُعتبر انتقامية، وليست ذات أهداف عسكرية، بأنها قد جاءت نتيجةً للإخفاق التركي في حيازة ضوء أخضر أمريكي، لغزو المناطق ذات الخصوصية الكردية شمال سوريا، على غرار ما حصل في أكتوبر العام 2019، عندما حازت على موافقة من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لغزو واحتلال الشريط الحدودي الواصل بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، وتهجير سكانهما، وتوطين آخرين من الموالين لأنقرة فيهما.
ورغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بالاقتصاد والخدمات في مناطق الإدارة الذاتية، والتي قد تحتاج أشهراً لحين تعويضها، لكنها تبقى بأية حالة، أفضل من سيناريو عفرين للعام 2018، عندما غزتها تركيا براً وجواً، وتمكنت من احتلالها عقب شهرين من المواجهات العنيفة، والتي شهدت إلى جانب التدمير، تهجيراً قسرياً للسكان وتغيير ديموغرافياً، وتنكيلاً مُستمراً حتى اليوم بالسكان الأصليين الكُرد.
ولا يُشير الهجوم التركي جواً واستهداف البنية التحتية في شمال وشرق سوريا، إلى غياب الضوء الأخضر الأمريكي على الغزو البري فحسب، بل ربما يوضح كذلك بأن الوجود الأمريكي في المنطقة، باق ومستمر بشكل استراتيجي بعيد المدى، وهو ما يفرض على أنقرة، تعاملها حتماً مع الأمر الواقع، والذي لن يكون إلا بالتوجه إلى اتفاقية سلام بين الإدارة الذاتية وتركيا، بناءً على علاقات حسن الجوار، والانسحاب التركي من الأراضي السورية، تحت رعاية ومراقبة أمريكية، لحليفين في الشرق الأوسط، إن اختارت أنقرة البقاء في الحلف الغربي.
فيما لن يكون الخيار الثاني، المتمثل في اختيار أنقرة للحلف الروسي الإيراني، إلا بداية لمرحلة جديدة، قد تُعيد رسم الخارطة التركية، وتفتح الباب على شرق أوسط جديد، كثر الحديث عنه خلال السنوات الماضية.
تهجير للكُرد وإسناد لداعش
بدوره قدم “بدران جيا كرد”، الرئيس المشترك لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا شرحاً للأوضاع في لقاء عبر برنامج “زوم” نظمه المركز الكردي للدراسات في التاسع من أكتوبر الجاري، حيث أكد أن تركيا تخلق الأعذار للهجوم على المنطقة، نافياً أن يكون للإدارة الذاتية أية علاقة بما حدث في أنقرة، مؤكداً أن “الحكومة التركية تخدع الرأي العام لديها، وفي كل العالم”.
وشدد جيا كرد على أن “الحكومة التركية مارست التطهير العرقي، والتهجير بحق الكرد في عفرين وسري كانيه، وتريد الآن تحويل كل مناطقنا إلى مناطق محتلة، لتغيير تركيبتها وتهجير أهلها”، مبيناً أن “تخريب تركيا للبنية التحتية ينتهك المعاهدات والقوانين الدولية، وخاصة اتفاقية جنيف التي ترفض تدمير الأطراف المتحاربة للبنية التحتية والإضرار بالمدنيين، والتي كانت تركيا قد وقعّت عليها وأبدت التزامها عليها”.
كما أشار المسؤول إلى “أن الصمت الدولي يشجّع تركيا على المضي قدماً في حملة تدمير مناطقنا وتشريد أهلها”، مؤكداً أن “الهجمات التركية خلقت واقعاً كارثياً، وحرمت المواطنين من الخدمات الأساسية، وإن الملايين باتوا يعيشون في كارثة حقيقية”.
لافتاً إلى أن الهجمات التركية تضر بالحرب ضد تنظيم “داعش”، وإن لديهم معلومات بأن “داعش” يستغل ما يحدث لتنظيم صفوفه وشن هجمات على المنطقة، قائلاً: “لدينا معلومات بأن “داعش” يحاول تأهيل المعتقلين في السجون وإعداد العدة لشن هجمات”.
وتابع: “الإدارة الذاتية قدمت تضحيات كبيرة في الحرب ضد “داعش”، وبذلك دافعت عن الإنسانية، لذلك ننتظر من كل المجتمع الدولي والقوى الديمقراطية، وكل الشعوب المساعدة والعمل على إنهاء الهجمات التركية علينا”.
التنسيق بين دمشق وأنقرة
أيضاً تطرق المسؤول في الإدارة الذاتية إلى التنسيق بين أنقرة وسلطات دمشق بقصف مناطقهم، فقال: “الواضح إن النظام السوري يرى في تدمير تركيا مناطقنا فائدة له، لأنه يريد أن يرى تدمير تجربة الإدارة الذاتية، لكن الهجمات التركية تدمر ثروات الشعب السوري، وعلى النظام التعامل معها من هذا المنطلق”.
مُردفاً: “النظام السوري لديه علاقات استخباراتية مع تركيا، ويبدو أنه متمّسك بتفاهمات أستانة برعاية الروس والإيرانيين، لذلك هو صامت حيال الهجمات التركية، وبالتالي فإن النظام السوري متفق مع تركيا وإيران حول إضعاف الإدارة الذاتية، ويرى من مصلحته النيل منها”.
واستكمل بالقول: “النظام السوري يرى أن صمته على الهجمات التركية على مناطقنا، قد يساهم في قبول تركيا لهجماته على إدلب، يبدو أن هناك تفاهماً ومقايضة “، وأضاف: “الهجمات التركية على مناطقنا وأهلها متواصلة، وهي ناتجة عن عقلية الإبادة والتطهير العرقي ضدنا، إننا نتطلع إلى موقف دولي وشعبي لدعمنا والوقوف ضد الحرب التركية علينا”.
حصيلة لنتائج الهجمات التركية
كما جرد “جيا كرد” حصيلة الهجمات التركية على البنية التحتية والمدنيين في شمال وشرق وسوريا، فقال: “الهجمات التركية أضرت بقدرتنا على مساعدة النازحين، وعددهم ٢٠٠ ألف في المخيمات، و٨٠٠ ألف في القرى والمدن في مناطقنا”، وأوضح بأن “هناك ١٨٢ موقعاً خدمياً تم تدميره من قبل أنقرة”.
وأردف: “المنطقة منكوبة الآن، هناك مليوني شخص قطعت عنهم خدمات الكهرباء والمياه، وثمة مخاوف من ظهور الأوبئة والأمراض جراء غياب الخدمات، الهجمات الجوية التركية دمّرت حتى الآن مشفيين كبيرين كانا يخدمان ٣٦٠ ألف مواطن، كما دمرت ٤٨ مدرسة، وأدت إلى حرمان عشرات الآلاف من التلاميذ والمدرسين من التعليم، إضافة لتدمير عشرات المشاغل والمصانع والورشات الحرفية”.
مؤكداً أن الهجمات التركية وتخريب المنطقة، سيساهم في زيادة الهجرة إلى الخارج وخاصة إلى أوروبا، وكذلك تعرقل عمل المنظمات الإنسانية، وتتسبب في تركها للمنطقة، وهو ما يساهم في الأضرار باللاجئين في المخيمات، بجانب تأثيرها على قدرة مؤسسات الإدارة الذاتية بتقديم الخدمات وسبل الحياة للاجئين.
ورغم أن الهجمات التركية تحمل عواقب وخيمة على مناطق شمال وشرق سوريا، لكن ليس للمراقب إلا أن يشير بأن كل الخسائر المادية والاقتصادية قد يمكن تعويضها مع الزمن، إن بقي الموقف الدولي متماسكاً ورافضاً للمطامع التركية بالمزيد من الأراضي السورية، والتي لا بد من أن تختتم بالوصول إلى مفاوضات سياسية، بين أنقرة وقامشلي، تفرض إنهاء الوجود العسكري التركي داخل الأراضي السورية، وإنهاء كل ما ترتب على احتلاله للأراضي السورية من هندسة ديموغرافية وتتريك وتهجير قسري للسكان الأصليين، خاصة في عفرين ورأس العين وتل أبيض.