ماذا يقول القانون الدولي الإنساني بشأن العدوان التركي على شمال شرق سوريا؟

تتعدد حالات الاعتداء والانتهاكات التي ترتكب بحق المدنيين خلال الفترة الماضية في منطقة الشرق الأوسط، وربما يرى هذا الأمر بشكل واضح ومتكرر مع الضربات التي تقوم بها تركيا على بعض مناطق شمال وشرق سوريا، دون التزام أو قيد منها بأي قدر من الحماية للمدنيين ما يتسبب في إزهاق كثير من الأرواح، وتدمير كثير من المنشئات التي يعتمد عليها هؤلاء المدنيين في حياتهم اليومية.

وقد بدأ العدوان التركي الأخير يوم 4 أكتوبر، وقد جرى توثيق استهداف القوات التركية البنى التحتية ومنشئات الطاقة، بل وصل الأمر إلى استهداف صوامع الحبوب والمستشفيات وجميع أملاك المدنيين التي اعتبرتها أهدافاً مشروعة، كما استهدفت المدنيين الآمنين في القرى مستخدمة في ذلك الطائرات الحربية والمسيرات الهجومية والقصف بالأسلحة الثقيلة والدبابات والقذائف الانشطارية.

من هنا كان لا بد من التوقف عند ما يجري والبحث عما يقوله القانون الدولي الإنساني في مثل هذه الوقائع، وفي هذا السياق، حاورت منصة “تارجيت” الإعلامية الدكتورة لبنى غريب مدرس العلوم السياسية والقانون الدولي العام في كلية السياسة والاقتصاد بجامعة قناة السويس المصرية حول القواعد القانونية المعنية بهذه الوقائع والتي تندرج بصفة أساسية في نطاق القانون الدولي الإنساني.

نص الحوار:

*هل لنا أن نتحدث  بشيء من التفصيل حول القانون الدولي الإنساني والغرض منه؟

-القانون الدولي الإنساني هو أحد فروع القانون الدولي العام، والذى يهدف إلى تنظيم حياة الأفراد وحمايتهم أثناء النزاعات المسلحة سواء فئة المقاتلين “المحاربين” أو “المدنيين”، وهو يتكامل في قواعده مع القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يهدف إلى حماية وتنظيم حياة الأفراد أثناء السلم. ولا يسعنا الوقت للحديث باستفاضة حول كلا القانونين ومصادرهم وكيفية المقارنة بينهما، ولكن اختصاراً يمكن القول إن أحكام القانون الدولى الإنساني لتنظيم سير العلميات العسكرية تسعي إلى تحقيق هدفين أساسيين، الأول كفالة حماية السكان المدنيين والأعيان المدنية من آثار العمليات العسكرية، والثانى هو فرض قيود على وسائل وأساليب قتال معينة.

*دعينى أستوقف حضرتك هنا للحديث عن الهدف الأول وهو كيفية حماية السكان المدنيين والأعيان المدنية وسؤالي حول آلية أو قواعد القانون الدولي الإنساني التى تكفل ذلك؟

– حسنًا، هناك 3 اتفاقيات دولية تسمى “اتفاقيات جنيف من الأولى وحتى الثالثة”، وهى تعنى بالأساس بوضع قيود على سلوك الأطراف المتحاربة أثناء سير العمليات العسكرية، بينما نظمت اتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكولاها الإضافيان “الحماية للمدنيين وممتلكاتهم، وهناك اتفاقية لاهاى 1954 الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية والتراثية أثناء النزاع المسلح. وتحديداً تنص المادة 51 فى فقرتها الأولى من بروتوكول جنيف الإضافى الأول على أن “يتمتع السكان المدنيون والأشخاص المدنيون بحماية عامة ضد الأخطار الناجمة عن العمليات العسكرية”.

*هنا يساورنى سؤال أثناء حديثكم، كيف يمكن التمييز خلال تلك النزاعات وخاصة المترامية أو واسعة النطاق بين من ينتمون لفئة المقاتلين ومن هم مدنيين، أو الأهداف العسكرية دون غيرها؟
– فى حقيقة الأمر، فإن مبدأ التمييز هو حجر الأساس بلا منازع لأحكام القانون الدولى الإنسانى، حيث يتعين على أطراف النزاع المسلح أن تعمل وفقاً له فى جميع الحالات وتميز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، ولتحقيق هذا الغرض، فإن الفقرة الثانية للمادة 52 من البروتوكول الإضافى الأول حدد المقصود بالأعيان المدنية بأنها “كافة الأعيان التى ليست أهدافاً عسكرية، وأن الأهداف العسكرية هى الأعيان التى تساهم “مساهمة فعالة” فى الأعمال العسكرية حسب طبيعتها وموقعها والغاية منها أو من استخدامها، وهى كذلك الأعيان التى ينتج عن تدميرها الكلى أو الجزئى أو الاستيلاء عليها أو تعطيلها “ميزة عسكرية أكيدة”.

*أرجو أن تذكري لنا أفضل نماذج عملية لما تعنيه هذه المصطلحات؟

– تشمل الأعيان المدنية “المنازل، المدارس، المستشفيات، دور العبادة والكبارى، الجسور، المزارع، المنشآت الهندسية، المصانع، موارد المياه، منشآت الري ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، وبصفة عامة كل ما يهدف لخدمة الأغراض المدنية، ويحسب على البروتوكول أنه ذكر الأعيان المدنية على سبيل المثال لا الحصر، حتى لا يتم تضييق نطاق الحماية الخاصة بتلك المنشآت والأعيان. وقد حظرت نص المادة 52 كافة صور الاعتداء المتوقع ضد هذه الأعيان، سواء تمثل ذلك فى المهاجمة، التدمير، النقل، أو التعطيل لتلك الأعيان.

*وماذا عن المدنيين؟

– فيما يتعلق بالمدنيين، يُعرف “السكان المدنيون” فى المادة 50 فقرة (1) و(2) من البروتوكول الإضافى الأول، تعريفاً سلبياً على أنهم يشملون جميع الأشخاص الذين ليسوا أفراداً فى القوات المسلحة التابعة لأحد أطراف النزاع ولا المشاركين فى هبة شعبية. وبالتالى يشمل التعريف المدنيين المرافقين للقوات المسلحة دون أن يندمجوا فيها، مثل المراسلين الحربيين، وبصفة عامة متعهدى تقديم الخدمات الطبية من القطاع الخاص وأفراد المخابرات أو إنفاذ القانون، حتى إذا كان من حق بعضهم التمتع بالوضع القانونى لأسير الحرب عند الإمساك به. ومن ناحية أخرى، وكما اتضح سابقاً، فإن جميع القوات والجماعات والوحدات المسلحة التى تظهر درجة كافية من التنظيم العسكرى وتمارس مهامهاً بحكم الواقع بالنيابة عن طرف فى النزاع أو بموافقته، يجب النظر إليها على أنها جزء من قواتها المسلحة، وبالتالى لا يجوز تصنيفها ضمن المدنيين، بغض النظر عن حقها فى التمتع بالوضع القانونى لأسير الحرب أو الحصول على امتيازات المقاتلين وبغض النظر عن تسميتها فى القانون الوطنى، وأخيرا تجدر الإشارة إلى أنه إذا ما ثار الشك حول ما إذا كان شخص ما مدنياً أم غير مدنى فإن ذلك الشخص طبقاً للقانون الدولى الإنسانى  يُعد مدنياً.

*يتضح من حديثك أن القانون الدولى الإنسانى قد حظر كافة صور الاعتداء المتوقع ضد الأعيان المدنية، فهل ذات الأمر يحدث بالنسبة للمدنيين، بمعنى آخر هل هناك أفعال معينة يحذر القانون الدولى الإنسانى من القيام بها ضدهم؟

– فى واقع الأمر، فإن المادة (51) من البروتوكول الإضافي الأول قد وضعت عدداً من المحظورات المحددة، يحظر القيام بها وممارستها ضد فئة المدنيين، هذه المحظورات هى، (أ) الهجمات المباشرة، كلمة “الهجمات” هنا لا تشير فقط إلى “العمليات الهجومية”، ولكنها تشمل جميع أعمال العنف الهجومية والدفاعية ضد الخصم. (ب) أعمال الإرهاب، حيث يحظر القانون الدولى الإنساني بشكل محدد أى أعمال عنف أو التهديد بها يكون غرضها الرئيسي بث الذعر بين السكان المدنيين. (ج) الهجمات العشوائية، وهى الهجمات التى من شأنها أن تصيب الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية دون تمييز، وهذا إما لإنها غير موجهة أو لا يمكن توجيهها ضد هدف عسكري محدد أو بسبب عدم إمكانية تقييد آثارها على النحو الذى يقتضيه القانون الدولى الإنسانى. (د) الدروع البشرية، يمنع القانون الدولي الإنساني أطراف النزاع من استخدام المدنيين كـ”دروع بشرية”، ووفقاً لذلك، لا يجوز التوسل بوجود السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين أو تحركاتهم فى حماية أهداف عسكرية من الهجوم أو فى محاولة درء الهجوم عن الأهداف العسكرية أوتغطية أو تحبيذ أو إعاقة العمليات العسكرية. أخيرًا، (ه) عدم المعاملة بالمثل وحظر الهجمات على سبيل القصاص، حيث تخضع جميع المحظورات المذكورة أعلاه لمبدأ عدم المعاملة بالمثل، أى أن مخالفتها من جانب العدو لا تعفى أطراف النزاع من التزاماتها حيال المدنيين، ويحظر بشكل خاص مهاجمة المدنيين على سبيل الاقتصاص.

*هل تقدمي لنا نماذج لحالات نزاع وقعت بالفعل وقد تم تفعيل هذه النصوص بها، والأهم من ذلك هل هناك من آلية تجبر الأطراف المتنازعة على احترام مثل هذه القواعد، وما هو العقاب فى حالة المخالفة؟

– بالطبع، مثل هذه الأسئلة هى الأهم من وجهة نظرنا نحن كمدنيين قد نكون عرضة لأي من هذه الأعمال لا قدر الله، ولكن دعنا فى البداية وقبل أن اتطرق إلى الأمثلة  أن أوضح لك وللقارئ العزيز أن قواعد القانون الدولي الإنساني تحديداً هو من أقدم وأولى قواعد القانون الدولي العام التى تم تدوينها، حيث كانت أغلبها قواعد عرفية وممارسات متواترة داخل المجتمع الدولى، بمعنى أن أغلب النزاعات والحروب التى حدثت يلتزم أطرافها فى الغالب الأعم بهذه القواعد، وكما تتميز اتفاقيات القانون الدولى الإنسانى “جنيف ولاهاى” بكونها من فئة “الاتفاقيات الشارعة” أى التى يلتزم بها ويتفق عليها غالبية أعضاء المجتمع الدولى. وهناك العديد من الأمثلة للحروب والنزاعات التى تم تفعيل هذه القواعد خلالها، سواء فى جزء منها أو بأكملها، منها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.

*ما هي اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية؟

– بموجب نظام روما الأساسي يتمثل اختصاص المحكمة فى النظر فى الجرائم التالية: جرائم الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، جرائم العدوا”، حيث يمكن محاكمة وملاحقة الأفراد الذين يشتبه فى تورطهم فى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفى الكثير من الحالات تم توجيه ضغط دولى سواء من خلال الأمم المتحدة أو أطراف دولية فاعلة من أجل الضغط على الأطراف المتحاربة للامتناع عن استهداف المدنيين والأعيان المدنية، وتحقيق وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية، ودائما ما يتم تشكيل لجان دولية “وخاصة الأممية لمراقبة مناطق النزاع، ولتقديم الرعاية الطبية والصحية فى المناطق المتضررة والحفاظ على سلامة المرافق بها وخاصة الحيوية، وبالرغم من هذا كله، لا يمكن أن ننكر وجود العديد من حالات النزاع التى شهدت تجاوزات وخرق لقواعد القانون الدولى الإنسانى فيما يتعلق بحماية المدنيين والأعيان المدنية أثناء النزاعات المسلحة.

*ما العمل إذن في مثل هذه الحالات؟

– يترتب على مثل هذه الأفعال فيما يسمى فى القانون الدولى العام بـ “المسؤولية الدولية” وهى الالتزام المفروض بموجب القانون الدولى على الدولة المُسند إليها ارتكاب فعل أو امتناع مخالف لالتزاماتها الدولية، أن تُقدم تعويضاً إلى الدولة المجنى عليها فى شخصيتها أو فى شخص أو أموال رعاياها، ولا يتوقف الأمر عند حد التعويض لكن قد يمتد للمحاكمات الجنائية كما تمت الإشارة سلفاً، وهو ما يعنى تفعيل صورتين من المسؤولية الدولية وهما “المسئولية الدولية المدنية، والمسؤولية الدولية الجنائية”.

*هل هناك شروط لتفعيل المسؤولية الدولية سواء المدنية أو الجنائية؟

– بالفعل لا بد من توافر شروط المسؤولية الدولية وهى ثلاثة شروط، الشرط الاول، يتمثل فى الواقعة المنشئة للمسؤولية الدولية والتى تتمثل فى وقوع فعل معين، أو الامتناع عن فعل معين يترتب عليه قيام هذه المسؤولية، وهذا هو الركن المادى للمسؤولية. الشرط الثانى، وهو الركن الشخصى أو علاقة السببية بين الفعل أو الخطأ والنتيجة، فيقصد به إسناد الواقعة إلى فاعلها وهى إحدى الدول، الشرط الثالث فيتعلق بركن الضرر أو النتيجة، فحتى تقوم المسؤولية لابد أن يكون هناك ضرر لدولة من الدول.

*إذا توافرت الشروط التي ذكرتيها، ما الخطوة التالية؟

– متى توافرت هذه الشروط الثلاثة يكون للطرف المتضرر كافة الصلاحيات القانونية فى مواجهة الطرف المخطئ، وذلك من أجل الحصول على التعويضات المناسبة لإصلاح الضرر أو تقديمها للمحاكمة الجنائية حال ارتكبها لجريمة تندرج تحت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

 *بصورة عملية، إلى أي مدى ينطبق ما ذكرتيه على الضربات التركية تجاه شمال شرق سوريا على مدار الفترة الماضية؟

– فى حديثنا حول قواعد القانون الدولي الإنساني المنظمة لحماية المدنيين والأعيان المدنية أثناء النزاعات المسلحة، فإنه يمكن القول إن تداعيات مثل هذه الضربات أو غيرها على المنشئات والأعيان المدنية وتدمير هذه الأعيان أثناء الضربات هى تداعيات يدينها القانون الدولي الإنساني بعيداً عن مدى مشروعية الهجمات أوعدم مشروعيتها، مسألة المشروعية أو عدم المشروعية لها حديث آخر، لكن ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن أي تعد على الأعيان والمنشئات المدنية وخاصة المنشئات الحيوية هى محرمة فى ضوء قواعد القانون الدولى الإنسانى، وحتى لو كانت تشنها ضد تنظيمات تهدد أمنها فعلياً كما تدعي أو حتى لو كان العكس.

*ما التحركات القانونية التي يمكن أن يلجأ إليها أهالي شمال شرق سوريا؟

– هناك تحركات رسمية يمكن القيام بها مثل تحريك دعاوى انتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني من جانب الدول في الأجهزة المختلفة للأمم المتحدة مثل مجلس الأمن الدولي والمحكمة الجنائية الدولية. كما يمكن للمنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان كتابة تقارير ترصد فيها مثل هذه الانتهاكات وتقدم أدلة عليها، إذ تكون هذه التقارير بمثابة ورقة ضغط على المجتمع الدولي. لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن تحريك الدعاوى يخضع بشكل كبير لاعتبارات سياسية وتوازنات القوى، وهنا يظهر تأثير الأبعاد السياسية على القانون الدولي، أو ما يسميه البعض تسييس قواعد القانون الدولي.

قد يعجبك ايضا