حاولت أنقرة كعاداتها، الاستثمار في الأزمة الأخيرة التي حصلت في دير الزور، ضمن مناطق قوات سوريا الديمقراطية، نهاية أغسطس الماضي، عقب عزل قائد مجلس دير الزور العسكري، المدعو أحمد الخبيل أبو خولة، نتيجة الشكاوى المرفوعة بحقه من قبل العشائر العربية في المنطقة.
وتنوع ذلك الاستثمار في شقين رئيسيين، تمثل في شق العسكرة، عبر التحريض على محاربة قسد بحجة أنها تضطهد العشائر العربية، رغم أن أكثر من نصف مقاتلي قسد يتشكلون من أبناء تلك العشائر، وحشد مسلحي الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشأم في إدلب، على جبهات منبج، تحت غطاء فزعة العشائر.
وكذلك شق السياسة، عبر التصريحات التركية التي دعمت إذكاء نار الاقتتال بين قسد وبعض المسلحين المتمردين من مناصري أحمد الخبيل، زاعمةً الدفاع عن العشائر العربية، فيما كانت الأنظار التركية تتجه صوب النفط، وهو ما لمح إليه الرئيس التركي في أحد تصريحاته.
تحشيد عسكري
ففي الأول من سبتمبر الجاري، قالت وسائل إعلام سورية معارضة، إن مليشيات “الجيش الوطني السوري” التابع لتركيا، سمحت بفتح معبر الساجور الفاصل بين مناطق قوات سوريا الديمقراطية، وبين مناطق سيطرة تلك المليشيات، في ريف جرابلس من أجل مرور العشائر التي تريد مؤازرة أهالي دير الزور (شرق) ضد قسد، في محاولة لتبرير هجمات مسلحي تلك المليشيات على جبهات قسد، في الوقت الذي كانت تدك فيه مدفعية النظام مناطق في إدلب.
ثم زعمت أن مقاتلين من أبناء العشائر، نفذوا هجوماً واسعاً على مواقع عسكرية مشتركة بين قوات النظام وقسد في ريف مدينة منبج شرقي محافظة حلب، حيث دائماً ما تحاول الوسائل الإعلامية المعارضة إقران قسد بالنظام، متجاهلين أن نشر قوات النظام في منبج وغيرها، أتى تحت الضغط التركي، الذي أعلن صراحة بعد ما سمي بـ”عملية نبع السلام” أكتوبر العام 2019، أنه يفضل قوات حكومة دمشق على حدوده، عوضاً عن قسد، وأن لا مشكلة لدى أنقرة، في حال انتشار قوات دمشق على كامل الشريط الحدودي، كشرط لوقف الهجمات على مناطق الإدارة الذاتية.
لكن السحر انقلب على الساحر، عندما تحول تمرير الجهاديين من جبهة النصرة في إدلب، إلى جبهات منبج، إلى صراع بين جبهة النصرة ومليشيات “الجيش الوطني السوري” على معبر الحمران بريف جرابلس، لا تزال معركتها غير محسومة بعد، في ظل تخمين كثيرين، بأن كامل منطقة غرب الفرات، ستخضع في فترة قادمة إلى تنظيم جبهة النصرة.
تحشيد سياسي
أما سياسياً، فصدرت بعد أزمة دير الزور، عدة مواقف من مجموعة مسؤولين أتراك، أكدت كلها على سعي تركيا لضرب الاستقرار في مناطق الإدارة الذاتية، حيث قالت بداية وزارة الخارجية التركية في بيان، ليل الأول من سبتمبر، إنَّ أنقرة تراقب “عن كثب وبقلق الاشتباكات… في دير الزور شرق سوريا”.
فيما لمح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الخامس من سبتمبر، معلقاً على أحداث دير الزور، إلى أطماع أنقرة بالسيطرة على النفط السوري، على شاكلة ما كان إبان سيرة تنظيم داعش الإرهابي على حقول النفط السوري، حيث كان يجري تصدير معظم الناتج إلى الجانب التركي.
أما وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، فقد أطلق في السادس من سبتمبر، تحذيرات وتهديدات صريحة للولايات المتحدة، قائلاً: “ما لم تفعلوا ذلك، فما رأيتموه من انتفاضة العشائر هو مجرد بداية فقط…هناك سيناريوهات أخطر ستظهر”، في تلميح منه إلى أن الجهود التركية لإثارة النعرات الطائفية والعنصرية ستتواصل، مُستغلة أحداث دير الزور، لتجييرها لصالح أنقرة في ضرب قوات سوريا الديمقراطية.
المخابرات التركية ومساعدة النظام السوري
وتعقيباً على كل ما ورد أعلاه، قال السياسي السوري المعارض “علي أمين السويد”، في تصريح خاص لمنصة تارجيت: “التصريحات التركية أُطلقت للتعمية عن دور المخابرات التركية في دفع بعض المجموعات العميلة لها، لمساعدة النظام السوري في خلط الأوراق في منطقة شرقي الفرات”.
مؤكداً بأن القول بأن ما جرى هو صراع بين “العشائر العربية” وقسد لا يعكس أية نسبة من الحقيقة، موضحاً: “فالطرف الذي حاول إثارة القلاقل لا يتعدى بضع عشرات من الأشخاص الذين حاولوا تصوير أنفسهم على أنهم “العشائر” العربية، وهم في الحقيقة أفراد لا يمثلون إلا أنفسهم”.
وحول اتهامات أردوغان، وحديثه عن النفط، قال السياسي السوري: “هذه التصريحات تُثير الاستغراب، فمن يخشى على وحدة الأراضي السورية، ويخشى على النفط السوري من السرقة، لا بد وأن يكون شخصاً سورياً حتى يغار على أمور تخص السوريين، غير أن أردوغان رئيس دولة ذات أطماع توسعية، ويسعى لاحتلال أكبر قدرٍ مُمكن من الأراضي السورية عن طريق إذكاء نار النعرات القومية بين العرب والكرد السوريين”.
كما عقّب السويد على تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، فقال: “هذه التصريحات التركية عبارة عن ترجمة أخرى لتصريحات الرئيس أردوغان حول اتفاقه مع بوتين على توحيد العشائر العربية ضد قسد، وهو من كان يصف تحرك العصابات الأسدية تحت مسمى العشائر العربية، بأنه معركة الكرامة والشرف وإلى ما هنالك من كلمات تحريضية فارغة من محتواها”.
وشدد السياسي السوري: “لقد ثبت لكل المُتابعين بأن تركيا والنظام السوري وروسيا وإيران هم من أجج تلك الاضطرابات التي انتهت سريعاً، بسبب عبثيتها وعدم مشروعيتها”.
أمريكا أكبر من الدعوات الصبيانية
وحيال مُطالبات تركيا للولايات المُتحدة بالخروج من سوريا، أوضح السياسي السوري لـ تارجيت: “المثير للسخرية أن تحرك العصابات المُرتبطة بالحشد الشعبي الإيراني والدفاع الوطني، والمرتبطة بالجيش الوطني التركسوري، ضد قسد”، مُشدداً على أن الاضطرابات “ما كانت لتحدث لولا تحريض وتمويل تركيا وإيران وروسيا لها، والعالم كله يعرف ذلك وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعرف كل شاردة وواردة في المنطقة، ومع ذلك يقوم وزير خارجية تركيا، بإطلاق تصريحات وكأن العالم أعمى وأصم ولا يفهم بألاعيب السياسة”.
مُستدركاً: “إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تستجب للدعوات الصبيانية التي أطلقتها منصات التواصل الاجتماعي، ولا لمُحاولات تركيا، الهادفة لزعزعة الاستقرار في المنطقة، لأن أمريكا دولة أعظم من أن تتنازل عن مصالحها لدولة مثل تركيا أو غيرها، متأثرة بضغوط سياسية أو عسكرية، وعليه فليس من المرجح أن تتخلى أمريكا عن المنطقة في المدى الزمني المنظور”.
وبعد نحو ثلاثة أسابيع، خرجت السلطة في دمشق وحلفائها في طهران وموسكو، كما خرجت أنقرة والمليشيات السورية التابعة لها، بخفي حنين من الأزمة التي تم اختلاقها في دير الزور، ولم تبق هناك معارك ومواجهات، إلا في أخبار تتناقلها وسائل إعلام تابعة للطرفين، ترفض الحقيقة وتصر على الفتنة، وذلك بعد التعاطي الحاسم والحكيم لقوات سوريا الديمقراطية مع الفتنة.