دولة بلا رئيس واقتصاد ينهار.. إلى أين يتجه لبنان؟

قبل أيام غادر فريق صندوق النقد الدولي العاصمة اللبنانية بيروت وقد أطلق تحذيراً شديداً بشأن مستقبل الاقتصاد اللبناني الذي يعاني بشدة، إذ شدد الفريق على أن التأخير في اتخاذ الإجراءات الإصلاحية بشكل عاجل سيثقل الاقتصاد على مدار السنوات المقبلة، وهنا لا تقتصر المشكلة على مجرد إجراءات وإنما تأخذ الأزمة – بحسب مراقبين – بعداً آخراً يتعلق بأزمة الطبقة السياسية القادرة على اتخاذ القرارات، لا سيما في ظل شغور منصب رئيس الجمهورية فيما تبقى الحكومة الحالية مؤقتة من أجل تصريف الأعمال.

وفي تعبير عن أزمة لبنان الاقتصادية والسياسية، تفجرت قبل أيام موجة عارمة من الجدل في الشارع اللبناني، إثر مشروع قانون في موازنة العام المالي 2024 يفرض ضريبة جديدة على نعوش الأموات التي تأتي من الخارج لدفنها في التراب اللبناني، ليكشف هذا المقترح عما بلغته الأزمة الاقتصادية في البلاد وما قد وصل إليه تفكير الساسة هناك الذين يبحثون عن أي مورد إضافي حتى لو كان بضريبة على الأموات.

هنا تكمن الأزمة

يقول الدكتور محمد صادق إسماعيل مدير المركز العربي للدراسات السياسية، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن أزمة لبنان معقدة ويتداخل فيها الاقتصادي مع السياسي، والخلافات السياسية طغت فيها على البعد الاقتصادي، ونرى ذلك جيداً منذ الحرب الأهلية أواخر سبعينات القرن الماضي وما ترتبط بها من فتنة طائفية ومحاصصة سياسية، وكل هذه الأمور انعكست بدورها على الأوضاع الاقتصادية.

وأضاف إسماعيل أن كل فئة في لبنان ترى نفسها على صواب والأخرى على خطأ، وبالتالي مسألة التشارك في بناء الدولة منتفية وهذه مشكلة كبيرة، ومختلف الفرق تسعى لإعلاء مكاسبها ومكانتها وليس الدولة، والدليل على ذلك أنه في انتخابات 2016 الرئاسية ظل المنصب شاغراً لمدة سنتين ونصف، أي أننا نتحدث عن دولة ظلت بلا رئيس لهذه المدة بسبب الخلافات.

ولفت الباحث السياسي المصري البارز إلى أن الأمور تفاقمت مع انفجار مرفأ بيروت في أغسطس من عام 2020، لأن الحادث كشف واقع الحياة الاقتصادية في لبنان ومدى فشل الاقتصاد في التفاعل مع الأزمات المختلفة، مضيفاً أن هذه الإشكاليات التي تداخل فيها ما هو سياسي وما هو اقتصادي من يدفع ثمنها الشعب اللبناني.

ويرى إسماعيل أن الوضع يحتاج إلى إعادة بناء الدولة مجدداً، فلا يمكن البناء والإصلاح على وضع خاطيء من الأساس، فلا بد أن يكون هناك نوع من إعادة بناء المؤسسات السياسية على يد جيل جديد غير الجيل الحالي الذي تربى على فكرة المحاصصة، ولهذا يرى لبنان ما يراه حالياً من صعوبات سياسية.

ويدلل على ذلك بما جاء على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي عندما تحدث عن المساعدات للبنان اشترط أن يكون هناك نوع من التشارك السياسي في الحكم، وبالطبع هذا الأمر غير موجود، ولهذا لم تحصل بيروت على أي دعم فرنسي، بل إن الساسة اللبنانيين فشلوا في مجرد التظاهر بالتوافق من أجل تلك المساعدات، ولهذا فإن الوضع صعب للغاية، نتيجة إصرار هؤلاء الساسة على البقاء في سدة الحكم دون النظر إلى رغبات واحتياجات المواطن اللبناني.

تحذير من انهيار الدولة

ويعتمد لبنان في اقتصاده بصفة رئيسية على السياحة  والخدمات لا سيما الخدمات المالية، وتكمن إشكاليته الرئيسية في عدم قدرة اللبنانيين على أن يكون لديهم قطاعات إنتاجية قوية، ولهذا ومع الأزمات السياسية المتوالية كانت بيروت دائماً بحاجة إلى الدعم الخارجي سواء من دول الخليج العربي أو بعض الدول الغربية.

وفي الأول من سبتمبر حذر وسيم المنصوري القائم بأعمال محافظ المصرف المركزي من أن أزمة البلاد الاقتصادية قد تتفاقم، إذا لم يضع الزعماء السياسيون ميزانية ويتفقون على الإصلاحات، مضيفاً، خلال مؤتمر صحفي بالمملكة العربية السعودية، أن كل يوم يمر دون صياغة القوانين والتوافق على الميزانية تتزايد الخسائر واحتمال انهيار الدولة.

ويتفق مع تلك التصريحات ألان بيفاني المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية ومهندس خطة الإنعاش الاقتصادي المصاغة مع البنك الدولي، إذ قال في تصريحات سابقة لصحيفة جارديان البريطانية إنه لم يكن يتوقع أن يتصرف السياسيون اللبنانيون بهذا الدم البارد وعدم المسؤولية، في اتهام للنخبة السياسية بعدم تنفيذ خطة هيكلية وبرنامج الإصلاح الاقتصادي في ظل 4 سنوات من الانهيار الاقتصادي.

وبحسب تقرير صدر قبل نهاية الشهر الماضي لوكالة أسوشيتيد برس الأمريكية، فقد واصل التضخم ارتفاعه ليصبح مكوناً من 3 أرقام أي فوق المائة، كما أن الدولار الأمريكي بات يعادل 90 ألف ليرة في السوق السوداء بعد أن ظلت مربوطة به عند 1500 ليرة لربع قرن تقريباً، والكهرباء الحكومة أصبحت شبه معدومة، بالكاد تستطيع المستشفيات والمدارس الحفاظ على المصابيح مضاءة، ويستجدي المسؤولون نوعية مساعدات إنسانية لا تطلب إلا عندما تكون دولة في حالة حرب.

بينما النخبة السياسية في المقابل تراهن على أن انتعاش قطاع السياحة والتحويلات من اللبنانيين في الخارج وصناعة الغاز الوليدة ستنعش الاقتصاد دون إصلاحات تتطلب تضحيات كبيرة، وهي ذاتها النخب المتهمة بالتسبب في انهيار النظام المالي نتيجة التشبث بالسلطة، إضافة إلى رياض سلامة حاكم مصرف لبنان المركزي لنحو 30 عاماً المتهم بغسل أموال واختلاس.

وتعليقاً على هذا، يقول محمد القزاز وهو كاتب صحفي متخصص في الشأن اللبناني، لمنصة تارجيت الإعلامية، إنه بعيداً عن خطط الإصلاح الاقتصادي، فإن الوضع في لبنان لن ينتعش إلا بالمساعدات الخليجية، والأخيرة لن تأتي إلا في حالة واحدة فقط وهي أن يتم انتخاب حكومة دائمة وليست مؤقتة، وأن يتم انتخاب رئيس جديد للبلاد، لأن هذه الدول ببساطة تريد أن تعلم مع من ستتعامل وأين ستتوجه تلك الأموال ويتم إنفاقها.

وأوضح القزاز أنه دون ذلك لن تهدأ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وحتى مسألة الرهان على عائدات الغاز المرتقبة غير مجدية في الوقت الحالي، لأن هذه الاكتشافات أمامها فترة حتى تأتي أُكلها، وبالتالي على الساسة اللبنانيين أن يتوافقوا ويجلسوا لاختيار رئيس جديد أولاً للبلاد، فلا تحسن اقتصادي دون تحسن سياسي.

البحث عن مخرج

لكن عند الحديث عن انتخاب رئيس جديد للبلاد فإن الوضع السياسي لا يقل سوءً عن واقع الاقتصاد، فقد كان يونيو الماضي شاهداً على المرة الثانية عشرة في حلقات فشل البرلمان في اختيار الرئيس، إذ لم يستطع أي من المرشحين الرئيسيين الحصول على النصاب اللازم للفوز، سواء سليمان فرنجية المدعوم من حزب الله، أو جهاد أزعور وزير المالية السابق والمدعوم من معارضي الحزب، ليستمر شغور المنصب منذ أكتوبر 2022 عندما انتهت ولاية العماد ميشال عون حليف حزب الله.

يقول الكاتب الصحفي والمحلل السياسي اللبناني محمد سعيد الرز، في تصريح لمنصة تارجيت الإعلامية، إن المساعي العربية والدولية، بما في ذلك مهمة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان تتجه إلى إحداث اختراق في الشغور الرئاسي اللبناني، ويرتكز هذا الاختراق على قاعدة استبعاد مرشح الثنائي الشيعي وحلفائه الوزير السابق سليمان فرنجية وكذلك مرشح المعارضة جهاد أزعور، كون المرشحين المذكورين لم يستطع أي منهما – ولن يستطيع – الحصول على أغلبية 86 نائباً تضمن وصوله إلى رئاسة الجمهورية.

وأوضح أنه كحصيلة لهذا الاختراق ترتفع أسهم قائد الجيش العماد جوزيف عون، خاصة بعدما أثبت عملياً – وليس بالبيانات – قدرته على حفظ تماسك المؤسسة العسكرية رغم تدهور مرتبات جنودها وضباطها والارتفاع بها إلى المستوى الوطني العام بعيداً عن العنصريات الطائفية وتصديها لحفظ الأمن وسحب فتائل ومشاريع الحروب الداخلية في محطات خطيرة كما حدث في مناطق الكحالة وبشري والبقاع وعين الحلوة والجنوب والشمال، فضلاً عن مواجهة عمليات التهريب والمخدرات.

وعن الإشكاليات التي قد تواجه هذا السيناريو، يقول الرز إن العقبة تبرز في رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي يرفض وصول العماد عون إلى سدة الرئاسة؛ ليس لسبب وطني وإنما خشية على تياره الذي سيتسرب جزء كبير منه لتأييد قائد الجيش، ولذلك فتح الحوار مع حزب الله بهدف وضع العراقيل أمام جوزيف عون فقط.

وفيما ينتظر لبنان عودة لودريان إلى بيروت أواسط سبتمبر للقاء رئيس البرلمان وإجراء حوارات مع الكتل النيابية الأساسية استناداً إلى ورقة الأسئلة التي سبق وطرحها عليهم، يقول الرز إنه من المعروف أن حل الأزمة اللبنانية بوجهيها السياسي والاقتصادي لا يمكن إلا أن يتم بمبادرة عربية، فلقد شهد لبنان منذ استقلاله قبل 75 سنة حوالي 12 أزمة كبرى لم تحلها إلا المبادرة العربية، بينما فشلت كل محاولات التدويل والتدخل الأجنبي، وكانت مصر تتقدم الصف العربي في وضع هذه الحلول للأزمات اللبنانية إما مباشرة أو بإطلاق مساع عربية جامعة.

وتابع المحلل السياسي اللبناني أنه من هنا تأتي أهمية مشاركة مصر ومعها السعودية وقطر في اللجنة الخماسية التي تضم أيضاً أمريكا وفرنسا بهدف إيجاد حل لمشكلة الشغور الرئاسي في لبنان على قاعدة التطبيق الكامل لاتفاق الطائف للوفاق الوطني الذي أنتج الدستور اللبناني الجديد، لا سيما وأن أساس الأزمة الحالية يعود إلى انقلاب الطبقة الحاكمة على هذا الاتفاق وتوافقها على تقاسم إدارات ومؤسسات الدولة وأموال المودعين والخزينة العامة ويستوي في ذلك الجميع.

ومن وقت لآخر تظهر توجهات سياسية لبنانية لا سيما على المستوى الشبابي تطالب بإلغاء نظام المحاصصة الطائفية وإقامة نظام سياسي وطني عابر للطوائف، إذ يرى هؤلاء أن الطائفية كانت سبباً في كثير من الأزمات السياسية والاقتصادية التي أصابت البلاد بشلل تام في كثير من الأوقات، وخير دليل على ذلك السنوات الأخيرة.

قد يعجبك ايضا