بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها في العاصمة الليبية طرابلس ونواحيها بعد أيام من الاشتباكات الساخنة التي أوقعت عشرات الضحايا بين قتلى ومصابين، كواحدة من أعنف الأحداث التي مرت على المنطقة الغربية، والتي تكشف هشاشة الوضع الأمني وقوة الخلافات التي تسود مناطق من ليبيا يمتلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفوذَا كبيرًا فيها.
ووقعت الاشتباكات بسبب خلاف بين ميليشيا قوة الردع الخاصة التي يقودها عبدالرؤوف كارة – والذي بالمناسبة ينحدر من أصول تركية – وميليشيا أخرى تدعى “444”، التي توصف بوكيلة أردوغان، والتي يقودها محمود حمزة القيادي السابق في قوة الردع الخاصة التي تميل بكثير من أفكارها إلى تيارات إسلامية متشددة.
القوتان الكبيرتان ضد بعضهما
ويقود قوة “444” في الغرب الليبي محمود حمزة الذي من الأساس جزءَ من قوة الردع الخاصة وضابطَا عاملَا ضمنها، ثم انفصل عنها سنة 2019 بقوة تدعى “2020” ثم أنشأ اللواء “444”، وقد أصبح لديه قوة كبيرة ومساحات نفوذ متنامية في جنوب شرق العاصمة طرابلس ابتداءَ من حي عين زارة المتاخم لسوق الجمعة وتاجوراء وأبوسليم والهضبة ويمتد جنوبَا إلى صلاح الدين والمناطق التي شهدت الاشتباكات.
كما يمتد نفوذ قوة “444” إلى مدن أخرى خارج ترهونة ويصل إلى بني وليد ويمتد حتى مناطق يمكن اعتبارها جزءَا من الجنوب الليبي، وبالتالي أصبح هذا اللواء له قواته ونفوذ خارج وداخل العاصمة، ولهذا يرى بعض المراقبين للأوضاع هناك أن الصراع بين القوتين الكبيرتين ربما يكون مرده تقاسم النفوذ بينهما.
“هذا هو سبب الخلل الحقيقي في العلاقة بين 444 وقوة الردع الخاصة، أي معركة النفوذ بين الطرفين”، بتلك الكلمات استهل الكاتب الصحفي الليبي حسين مفتاح نائب رئيس تحرير بوابة أفريقيا الإخبارية حديثه مع منصة تارجيت الإعلامية حول أسباب ما جرى من اشتباكات في طرابلس، معتبرا أن الاشتباكات ليست بالأمر الغريب على طرابلس في ظل التركيبة التي تقوم عليها كثير من الميليشيات والقوات الموجودة بها.
وأوضح “مفتاح” أن الغريب هذه المرة أن تحدث الاشتباكات بين أكبر قوتين وهي الردع الخاصة و”444″، وهما أكبر قوتين ليس في طرابلس فقط بل في المنطقة الغربية بالكامل، مؤكدَا أن التصرف الذي أقدمت عليه قوة الردع بالقبض على محمود حمزة بطريقة بعيدة كل البعد عن الأعراف والتقاليد العسكرية خطأ لا يغتفر.
أما عن أسباب القبض على محمود حمزة، يقول الكاتب الصحفي الليبي إنه منذ القبض عليه وحتى الإفراج عنه لا توجد أسباب واضحة، قيل إنه قد تم القبض عليه بموجب مذكرة من المدعي العام العسكري، لكن الأخير نفى ذلك لاحقاً، كما أن محمود حمزة تم الإفراج عنه دون تحقيقات، ولو كان هناك بالفعل استدعاء من المدعي العام العسكري، فحمزة بصرف النظر عن أية اعتبارات هو عسكري ويجب التحقيق معه وفق النظم المعمول بها عسكريَا أي لو طلب للتحقيق ورفض القدوم فالأمر مهمة الشرطة العسكرية، لكن يتم القبض عليه من قبل قوة شرطية أخرى فهذا يجعل الأمر غير واضح.
ويلفت “مفتاح” إلى نقطة أخرى في عملية القبض على “حمزة” وهي أن قوة الردع الخاصة قبضت عليه وهو برفقة السيد عبدالحميد الديبية رئيس حكومة طرابلس وهو في الوقت ذاته وزير الدفاع وكان ذلك في مطار معيتيقة وحين يقبض على ضابط وأمام وزير دفاعه، فهذا أمر يعبر عن سوء الوضع في طرابلس وأنه لا توجد مؤسسات عسكرية حقيقية وتغيب كذلك عنها التراتبية.
ويواصل نائب رئيس تحرير بوابة أفريقيا الإخبارية حديثه عن الأسباب المتداولة بشأن الخلافات بين القوتين، إذ يقول إن الخلاف ربما يعود إلى أسباب تتعلق بالدعم المقدم من قبل حكومة طرابلس للقوتين، إذ زادت الحكومة الدعم بشكل ملحوظ لقوة “444” سواء مالياً أو من حيث العتاد والأفراد، وذلك مقارنة ببقية التشكيلات المسلحة في العاصمة بما في ذلك قوة الردع الخاصة، التي يبدو أنها حاولت معاقبة محمود حمزة، لأنه بمجرد القبض على الأخيرة تم التحرك على الفور من قبل تشكيلات مسلحة أخرى ومهاجمة مقار “444” في إطار محاولة توسيع السيطرةعلى العاصمة.
وتسببت الاشتباكات في سقوط 50 قتيلًا على الأقل وإصابة قرابة 150، بحسب البيانات التي أدلى بها مركز طب الطوارئ والدعم في طرابلس، فيما بدأت وفود طبية التوجه إلى مناطق الاشتباكات لإسعاف الجرحى، وسط أنباء عن مشاركة طواقم طبية مصرية وإسبانية لتقديم الدعم للأجهزة الطبية هناك.
حديث عن دور خارجي
في هذا السياق، يقول الفريق محمد الحداد رئيس أركان القوات التابعة لحكومة طرابلس إن الاشتباكات التي جرت الأيام الماضية سببها قوى داخلية وخارجية تهدف إلى نشر الفوضى وتعطيل العملية الانتخابية وطريق ليبيا نحو السلام، على حد قوله، مضيفَا، في تصريحات إعلامية، أنه عندما يقاتل الليبيون بعضهم البعض بدلَا من الوحدة، فإن هذا سيجعلهم أضعف من القوى الخارجية.
ورغم أن رئيس أركان القوات التابعة لحكومة طرابلس لم يوضح هوية تلك القوى الخارجية التي تحدث عنها، أو القوى الداخلية التي لو ذكرها يمكن التعرف على من خلفها، لكن مصدر مطلع على الأوضاع هناك، يقول لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن تركيا أطلت برأسها عبر الاشتباكات الأخيرة، إذ أن جهة ما حرضت للهجوم على قوة “444”؛ لأن قائدها محمود حمزة يمكن بكل بساطة وصفه بأنه “وكيل أردوغان” في ليبيا، وقد أصبح رجل تركيا الأول، مضيفَا أن جهة ما أرادت معاقبة أنقرة عبر محمود حمزة.
يقول الدكتور حسين الشارف المحلل السياسي الليبي، لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن عبدالحميد الدبيبة يمول تلك الميليشيات فهو لا يمتلك من أمره شيء، وكل ما يمتلكه القدرة على التوقيع لصرف أموال الليبيين لتلك الميليشيات، وطرابلس للأسف الشديد قسمت إلى مربعات وكل مربع تسيطر عليه إيديولوجية معينة، بعضها له خلفيات إيديولوجية مثل الإخوان، وبعضها لا يهمه إلى المال واستنزاف الناس، موضحًا أن عدد الضحايا أكبر من المعلن عنه رسميًا، إذ قتل 150 على الأقل بينما هناك أكثر من 200 مصاب.
ويتحدث المحلل السياسي الليبي عن موقف أردوغان قائلًا إن رئيس تركيا يقف موقف المتفرج بين هذه التشكيلات المسلحة، لأن أغلبها تأتمر بأوامر خارجية، وأعتقد أنه كان هناك إيعاز خارجي لإشعال هذه الاشتباكات إلى جانب مسألة تقاسم النفوذ، إيعاز من بعض الدول التي تدعم تلك الميلشيات لتقام هذه الحرب من أجل إعادة رسم خريطة النفوذ بين القوى المسيطرة على طرابلس.
ويرى الشارف أن القوات التركية موجودة عن قرب ولم تتدخل في الاشتباكات ووقفت موقف المتفرج، معربًا عن اعتقاده بأن القوات التركية كل ما يعنيها حماية عبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة طرابلس، وكذلك حماية محافظ مصرف ليبيا المركزي، من أجل ضمان الحفاظ على مصالحهم ومشروعاتهم في ليبيا وضمان تيسير الحصول على الأمول سواء لدعم المصرف المركزي التركي أو مشروعاتهم في طرابلس أو القواعد التي يطمحون لبنائها على نفقة الدبيبة رغم أنها تعمل لصالح الأتراك.
جذور الأزمة الليبية
والأزمة الليبية هي واحدة من أعقد أزمات المنطقة، إذ أنه في ظل موجة ما يسمى بالربيع العربي خرجت احتجاجات عنيفة ضد نظام العقيد معمر القذافي والذي رد بالقوة في مواجهة تلك الاحتجاجات لتحدث انشقاقات وتتدخل قوى دولية سلحت المعارضين وصولًا إلى القبض على القذافي وقتله، ليتم لاحقَا إجراء انتخابات تمخض عنها المؤتمر الوطني (البرلمان المؤقت) الذي تمكن الإسلاميون عبر عدة ألاعيب من السيطرة عليه رغم أنهم لم يحققوا الأغلبية.
وفي عام 2014 أجريت انتخابات مجلس النواب الليبي بهدف تمهيد الطريق لإنهاء المرحلة الانتقالية وإقامة دولة مؤسسات وانتخاب رئيس للبلاد، لكن الانتخابات جاءت صادمة للإسلاميين الذين هزموا هزيمة ساحقة، فرفضوا الاعتراف بها، وقرروا عودة عمل المؤتمر الوطني المنتهية ولايته وشكلوا حكومة تتبعهم في العاصمة طرابلس ولديهم الميليشيات التي تدعمهم ومن خلفهم تركيا وقطر وبعض الأطراف الأخرى الدولية.
أمام هذا الوضع، لجأ أعضاء مجلس النواب المنتخب إلى نقل مقر البرلمان من طرابلس إلى مدينة طبرق شرق البلاد، وانتخبوا حكومة مؤقتة، وخلفهم قوة ما يعرف بالجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر والذي كان يحظى بدعم مصري إماراتي سعودي وبعض الأطراف الدولية الأخرى، ومن هنا تحول الصراع واقعيَا إلى صراع بين الشرق والغرب الليبي.
ثم تدخلت الأمم المتحدة عام 2016 ورعت جولات من المباحثات والمفاوضات بين قوى الشرق والغرب الليبي تمخضت عن تشكيل ما يعرف بالمجلس الرئاسي الذي كان يضم رئيس من الغرب يكون هو رئيس الحكومة كذلك، ونائب من الشرق ونائب من الجنوب، وتم الاتفاق على أن يصبح البرلمان الليبي مكون من غرفتين هما مجلس النواب المنتخب والمنعقد في طبرق، ويتحول المؤتمر الوطني المنتهية ولايته والخاضع لسيطرة الإسلاميين إلى هيئة استشارية تسمى المجلس الأعلى للدولة.
لكن الأزمة لم تنتهي، إذ فشلت حكومة المجلس الرئاسي بقيادة فايز السراج في الحصول على ثقة مجلس النواب لأسباب عديدة، وبقيت في نظر الشرق اللبي وهذا المجلس حكومة فاقدة للشرعية في وقت تمسك السراج بمنصبه، كما أن هذا أيضاً كان مصير حكومة عبدالحميد الدبيبة التي أتت لاحقَا بموجب تفاهمات ورعاية أممية، ألحقت بعض التعديلات على المجلس الرئاسي إذ جعلت منصب رئيس المجلس منفصلًا عن منصب رئيس الحكومة.
وقد سحب مجلس النواب الثقة من تلك الحكومة بداعي فشلها في إجراء الانتخابات في إطار المدة التي كانت متفقَا عليها، وكلف المجلس فتحي باشاغا عضو مجلس النواب المنحدر من الغرب الليبي بتشكيل الحكومة رغم أنه كان أحد أبرز الوجوه المعارضة للشرق من قبل، والذي فشل في تشكيل حكومة هو الآخر.
لكن الدبية رفض الامتثال لقرار مجلس النواب ولا يزال يتمسك بحكومته ليتكرر نفس سيناريو حكومة فايز السراج، وكما تشاركتا الحكومتان في نفس الوضعية بالنسبة لمجلس النواب، فإنهما تشاركتا في المسارعة إلى توقيع عديد من الاتفاقيات الأمنية مع تركيا، والتي بموجبها أصبح لأنقرة موطيء قدم عسكري بالغ الخطورة يشكل إزعاجًا لكثير من دول الجوار وعلى رأسهم مصر.
وجدير بالذكر أن كل الميليشيات الموجودة في غرب ليبيا كانت تحظى بدعم كبير من قبل تركيا سواء سياسيًا أو عسكريًا خلال فترات المواجهة بينها وبين قوات ما يعرف بالجيش الوطني الليبي، بل وأرسل أردوغان لهم المستشارين العسكريين والمرتزقة وكذلك الأسلحة والذخائر والطائرات المسيرة بموجب الاتفاقيات الأمنية التي أبرمت مع حكومة طرابلس.