تحت عنوان “خمس سنوات من الظلم تكفي”، أصدرت شبكة “ريليف ويب” المنبثقة عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بنيويورك تقريراً يتضمن دراسة استقصائية حول الانتهاكات التي ارتكبت بحق الكرد والإيزيديين في شمال وشرق سوريا إما على يد القوات التركية أو على يد فصائل مسلحة موالية للنظام التركي بقيادة رجب طيب أردوغان.
وقد اعتمدت الشبكة – التي تعد أكبر بوابة معلومات إنسانية حول العالم – في دراستها على 40 شهادة وبيان تم جمعها في الفترة الممتدة بين مارس ومايو من العام الجاري 2023، حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في منطقة “عفرين”، وقد جمعت المعلومات تزامناً مع الذكرى السنوية لاحتلال تركيا لها وإخضاعها للحكم العسكري المباشر.
ميليشيات ومخابرات تركية.. أهم المتورطين في الانتهاكات
تقول الدراسة إن الشهادات التي حصلت عليها أشارت بشكل واضح إلى تورط عدة مجموعات مسلحة تابعة لميليشيات “الجيش الوطني السوري” الذي تدعمه تركيا في الانتهاكات الموثقة، لكن هناك أسماء مجموعات معينة وردت في الشهادات بشكل متكرر أكثر من غيرها، وهي فرقة الحمزة أو الحمزات وفرقة السلطان مراد وفيلق الشام، والجبهة الشامية، وجيش الشرقية وأحرار الشرقية ورجال المشرق الأحرار وجيش النخبة وحركة نور الدين زنكي والشرطة العسكرية، بالإضافة إلى المخابرات التركية.
ولفتت الدراسة إلى أن كل هؤلاء متهمون بالتعذيب وسوء المعاملة علاوة على ذلك، فقد كشف جزء من الشهادات – التي قدمها أشخاص ينحدرون من جميع مناطق عفرين تقريباً – أن الجناة استخدموا تهمتين مزعومتين كذريعة لاعتقال وتعذيب العديد من السكان المحليين وغالبيتهم من الكرد للاستيلاء على ممتلكاتهم ومنعهم من الوصول إلى منازلهم وأراضيهم، وهما العمل مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي كانت تدير عفرين حتى عام 2018، والتهمة الثانية العضوية في حزب العمال الكردستاني، مشيرة إلى أن تهمة العمل مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تشكل تهديداً لنسبة كبيرة من سكان عفرين.
وكشف جزء آخر من الشهادات التي تم جمعها أن الاعتقالات والتعذيب والاستيلاء على الممتلكات التي ارتكبها الجناة ضد السكان الكرد في المنطقة لم تقتصر على أولئك الذين يُزعم أنهم اتهموا بهاتين التهمتين، أي التعامل مع الإدارة الذاتية والانتماء إلى حزب العمال الكردستاني، حيث أن الانتهاكات طالت كذلك عديداً من المعارضين السياسيين للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كونهم يرفضون الوجود التركي، في إشارة من الشبكة إلى أن الأمر يطال كل من يرفض الاحتلال التركي.
ولفتت “ريليف ويب” إلى أن الجماعات المسلحة التابعة لما يعرف بالجيش الوطني استخدمت أساليب التعذيب لإجبار المعتقلين على الاعتراف على أنفسهم بأنهم اقترفوا التهم الموجهة إليهم أو عن عائلاتهم أو جيرانهم، كما أشارت شهادات هؤلاء أن تلك الميليشيات استولت على منازل وممتلكات أخرى من أصحابها المدنيين في جنديرس وضواحيها.
تعليقاً على ذلك، يقول فراس يونس الكاتب السوري، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن القوات التركية التي دخلت مناطق في شمال وشرق سوريا ارتكبت كثيراً من الانتهاكات، مؤكداً أنه بصفة عامة القوات التركية والفصائل الموالية لها سجلها غير المشرف وهي متورطة في كثير من الانتهاكات.
وحذر “يونس” كذلك من انتهاكات تجرى في الوقت الحالي، قائلاً إنه للأسف أيضاً هذه الانتهاكات مستمرة في ظل انشغال الإقليم والعالم بالحدث الأهم وهو ما يجري في قطاع غزة من عدوان لإسرائيل وما يحدث بحق الأشقاء الفلسطينيين، وبالتالي فإن هذه الأجواء تشكل فرصة ذهبية بالنسبة للأتراك والقوى التي تعمل بإمرتها لتقوم بما تريد من انتهاكات وتجاوزات.
مصادرة واسعة النطاق لممتلكات الإيزيديين وإعادة توطين
من جهة أخرى، وثقت دراسة شبكة “ريليف ويب” عمليات مصادرة واسعة النطاق لممتلكات المجتمع الإيزيدي، حيث صادر الجناة عديداً من المنازل والمتاجر وبساتين الزيتون المملوكة لأفراد من الطائفة الإيزيدية، وقاموا بتحويل عدد منها إلى مقرات أو قواعد عسكرية واستخدموا بعضها الآخر لإيواء عائلات المقاتلين التابعين لتلك الميليشيات أو النازحين من مناطق أخرى في جميع أنحاء سوريا.
وعلى سبيل المثال، فرضت الجبهة الشامية هيمنتها على كامل قرية بافليون/بافلوني الإيزيدية في ناحية شران في منطقة عفرين، ومنعت المجموعة المسلحة كافة أهالي القرية من العودة إلى منازلهم، وقامت بتوطين النازحين وأسر مقاتليها مكانهم، بحسب ما أفاد به أهالي القرية المهجرون قسراً.
وبالإضافة إلى إعادة استخدام الممتلكات المصادرة لأغراض عسكرية أو سكنية، تظهر الشهادات أن الجماعات المسلحة في مناطق مختلفة عبر منطقة عفرين استخدمت عائدات المنازل والبساتين التي تم الاستيلاء عليها لتمويل أنشطتها وكشفت أن منزلاً واحداً على الأقل قد تم تحويله إلى مبنى عام من قبل إحدى المنظمات التابعة لتركيا.
تعذيب واسع النطاق واغتصاب
كما تؤكد الشهادات التي نقلتها شبكة “ريليف ويب” تورط عدة مجموعات مسلحة تابعة للجيش الوطني في قضايا تعذيب، بعد أن قامت باعتقال أو اختطاف ضحايا، بينهم امرأة إيزيدية ورجل كبير في السن، حيث قام الجناة باختطاف الرجل وتعذيبه قبل إطلاق سراحه مقابل فدية، أما المرأة فقد اعتقلوها وعذبوها وحكموا عليها بالسجن لعدة سنوات، فيما قال ضحية تعذيب ثالثة إنه شهد عدة حالات اغتصاب في مركز احتجاز في أعزاز، مضيفاً أنه كان هناك ضباط من المخابرات التركية في تلك المنشأة.
كما تعرض الشهادات أيضاً حالات كان فيها الضحايا أو الناجون هدفاً لانتهاكات متعددة من قبل نفس الجماعات المسلحة التابعة لميليشيات الجيش الوطني أو مجموعات مختلفة، وقالت إحدى النساء في شهادتها إنها تعرضت للإخفاء القسري لمدة عامين ونصف على يد فرقة الحمزات، وتوفي زوجها في أحد مراكز احتجاز الفصائل المسلحة، وتمت مصادرة الـممتلكات الخاصة بهما من قبل كتائب صقور الشام.
وفي حالة ثانية، تعرض مدني كردي للتعذيب على يد مقاتلين من جيش الشرقية في جنديرس، لمجرد أنه طالب المجموعة المسلحة بإعادة منزله الذي صادروه عام 2018، وقام مسلحون من نفس المجموعة بقتل الضحية وأسرته في 20 مارس 2023، لأنهم أشعلوا ناراً صغيرة احتفالاً برأس السنة الكردية “نوروز”.
بدوره، يقول هاني الجمل الأكاديمي والباحث السياسي المصري، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إن تركيا ترتكب عديداً من الجرائم التي ترتقي إلى وصفها بجرائم حرب وإبادة تقوم على العرق بحق الكرد في مناطق شمال وشرق سوريا، وتستهدف تماماً القضاء على الهوية والثقافة الكردية.
وانتقد “الجمل” مواقف بعض الدول الإقليمية من الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها القوات التركية أو الجماعات التابعة لها في سوريا، وهي تشبه كثيراً الانتهاكات التي ترتكب في شمال العراق، والتي تستوجب أن يكون هناك تحركاً دولياً ضدها، فما يجري هو تمدد وتوسع هدفه إحياء الأفكار العثمانية والقضاء على مكون رئيسي لديه بصمته في ثقافة وحضارة المنطقة.
تتريك وتغيير ديمغرافي.. دور مشبوه لتركيا
وتنوه الشبكة الحقوقية إلى أن النطاق الجغرافي للانتهاكات الذي يمتد عبر عفرين ليشمل مناطق سيطرة العديد من الجماعات المسلحة التابعة للجيش الوطني، وتجاهل تركيا المتكرر لدعوات المنظمات الدولية المستقلة والأمم المتحدة لوقف هذه الانتهاكات على مدى السنوات الخمس الماضية، يمثل مؤشراً إضافياً، يجعل من المرجح أن تكون “أنقرة” هي التي أطلقت العنان للجماعات المسلحة المعنية لارتكاب هذه الانتهاكات.
وكانت منطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية سابقاً، مسرحاً للعديد من انتهاكات حقوق الإنسان منذ احتلالها عام 2018، والتي وثقتها منظمات محلية ودولية مستقلة وكيانات تابعة للأمم المتحدة على نطاق واسع، وتواصل الجماعات المسلحة التابعة للجيش الوطني ارتكاب جرائمها وانتهاكات واسعة النطاق وممنهجة في المنطقة، بما في ذلك القتل والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب وسوء المعاملة والنهب ومصادرة الممتلكات، وإجبار المدنيين الكرد على ترك منازلهم، وعرقلة عودتهم إلى مدنهم الأصلية، بالإضافة إلى التتريك والتغيير الديموغرافي.