بين إعادة الإعمار وعودة القصف التركي

ما بعد الخامس من أكتوبر ليس كما قبله، تلك هي الحال في مناطق شمال وشرق سوريا، التي تقودها الإدارة الذاتية، وتتكفل بحمايتها كل من قوات سوريا الديمقراطية، وقوات الأسايش\الأمن الداخلي، لكن دون أن يكون هناك مقدرة على مواجهات الطائرات الحربية التركية ومُسيرتها، التي لا يكاد يمر وقت طويل، حتى تعود إلى سماء المنطقة، وتنشر الفوضى والدماء والدمار.

فمنذ ذلك التاريخ (5 أكتوبر)، وحتى عقبها بأسبوعين، كانت طائرات أنقرة، تستبيح السماء السورية، وتستهدف بشكل أساسي البنية التحتية للمنطقة، بشكل خاص قطاعات المياه والكهرباء والنفط، التي تعتبر عصب الحياة، وشرطاً لدوامها، فيما تنتفي مع غيابها الحياة، وتزداد مصاعبها، وهو ما قد يدفع البعض للبحث عن حل فردي، يكون غالباً بالتفكير في السفر والهجرة.

ويبدو ذلك جوهر وغاية الهجمات التركية على المدى البعيد، إذ تسعى لإفراغ المنطقة من سكانها، باعتبارها لا تزال تأمل في تكرار سيناريو عفرين، في مناطق أخرى من شمال سوريا، والتي تتلخص في تهجير السكان الأصليين، واستجلاب مئات الآلاف الآخرين وتوطينهم، لخلق حزام ديموغرافي فاصل بين الكُرد في سوريا، والكُرد في تركيا، مُتوهمةً أن ذلك قد ينهي القضية الكردية في الداخل التركي، واستكمال سياسات الصهر القومي، وإذابة العنصر الكُردي في البوتقة القومية التركية.

الحرب التركية وعودة داعش

ولأن سوريا في العموم تمر في حرب طاحنة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، فإن الدمار الذي تمارسه آلة الحرب التركية، يًضاعف ولا بد من الضرر الذي لحق بمختلف قطاعات البنية التحتية المتهالكة أساساً، فيما لا يمكن لجهود الإدارة الذاتية أن تغطي كل النواقص، مع غياب التعاون الدولي والصمت عن جرائم تركيا.

إذ لا يجري التعاطي مع نداءاتها على محمل المسؤولية المطلوبة من المجتمع الدولي، وهو ما يشكل عائقاً إضافياً أمام تحسين المنطقة، أما والحال هذه، والتقدم المنجز يجري استهدافه والنيل منه، فإن المسوغات والمقومات لعودة داعش تبدو متنامية، ولوحظ مؤخراً توسع نشاطها، تحت مسميات عدة، لكنها في جوهرها حملت الفكر المتطرف ذاته.

أضرار كبيرة ومناشدة للمساعدة

بالصدد، قال موقع نورث برس الإخباري في شمال سوريا، ضمن تقرير له بتاريخ الرابع عشر من أكتوبر، إن القوات التركية استهدفت 264 موقعاً في شمال شرقي سوريا، خلال عشرة أيام.

وذكر أن الاستهداف توزع بين 29 موقعاً للبنى التحتية، و185 مواقعاً سكنياً، و38 موقعاً عسكرياً، بينهم 25 للقوات الحكومية، و7 أراضٍ زراعية، و3 معامل صناعية، ومدرسة ومشفيان، حيث تم استهدافها بـ356 ضربة، منها 267 بالمدفعية والأسلحة الثقيلة، و25 بالطيران الحربي، و64 ضربة بالطائرات المسيرة، إذ فقد 9 مدنيين حياتهم وأصيب 15 آخرين، بجانب فقدان 39 عسكرياً لحياته، وإصابة 34 آخرين.

من جهته، طالب أكرم سليمان، الرئيس المشترك لمكتب الطاقة بالإدارة الذاتية، في تصريح للوكالة ذاتها بتاريخ السابع عشر من أكتوبر، بتدخل أطراف دولية لإعادة تأهيل البنى التحتية والمنشآت الحيوية التي دمرّها القصف التركي.

وقال إن البنى التحتية التي تم تدميرها جراء الهجمات التركية لا يمكن صيانتها، كون الإمكانات المتوفرة بسيطة جداً، مشدداً على “تدخل دولي سريع لإعادة تأهيل هذه المنشآت وإعادتها إلى الخدمة”، مضيفاً أن المدة الزمنية لإعادة صيانة المنشآت غير معروفة، مشيراً إلى أن تكلفة صيانتها تقدر بـ”ملايين الدولارات”.

دعوة للتحقيق ومُحاسبة تركيا

فيما أكدت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في الثامن عشر من أكتوبر، عبر مؤتمر صحفي، استهداف تركيا لـ 104 مواقع ومنشأة ومركز خدمي في الفترة الممتدة ما بين الـ 5 إلى 9 من أكتوبر، ودعت إلى ضرورة فتح تحقيق علني وحيادي وشفاف حيال ممارسات تركيا ضد المنطقة.

وشددت على أنه تم تنفيذ 580 ضربة جوية وبرية من أقصى ديرك (شمال شرق سوريا) وصولاً إلى الشهباء (شمال غرب سوريا)، لتشمل تلك الضربات عموم مناطق الإدارة الذاتية، مطالبةً “جميع القوى الفاعلة في سوريا ومؤسسات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان ومجلس الأمن والفعاليات المجتمعية والمدنية بضرورة الخروج بمواقف واضحة حيال ممارسات تركيا”.

وأصرت على ضرورة فتح تحقيق علني وحيادي وشفاف حيال ممارسات تركيا، من قبل لجان دولية مختصة، وتقديم كل المسؤولين عن عمليات التدمير واستهداف سبل العيش لمحاكم مختصة، ولفتت إلى أن “تركيا ترتكب جرائم حرب متكاملة الأركان في مناطقنا، وهذه الجرائم يجب ألا يتم السكوت عنها”.

الهجمات التركية دعم مُباشر للإرهاب

وللتعقيب على ما سبق، قال “بدران جيا كرد” الرئيس المشترك لهيئة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، خلال حديث خاص لـ منصة تارجيت، تحديداً حول دعوتهم العالم للمساعدة في إعادة تأهيل المرافق التي دمرها الجيش التركي، وإن كان من الممكن أن تحصل استجابة من أي دولة: “النداءات التي تمت، جميعها تكمن في آلية واحدة، وهي دعم عملية الاستقرار وضمانه، دون هذا الدعم هناك مخاطر تتجاوز مناطقنا من حيث الجغرافية”.

مردفاً: “هناك فكر وإيديولوجيا وخلايا لداعش، كذلك هناك خطر يحدق بمكاسبنا المشتركة مع التحالف الدولي، لذا الدعم مهم وضروري لضمان الاستقرار ومنع إتاحة الفرصة لعودة داعش”.

مشدداً: “الهجمات التركية أساساً في هدفها، تعمل على ضرب الاستقرار وخلق الفوضى، وهذه الفوضى ورقة دعم مُباشر للإرهاب”، مُستدركاً: “سابقاً كانت هناك برامج وخطط تدعم توجهنا نحو الاستقرار ونأمل استمرارها ونسعى لتطويرها حتى”.

الجدوى من إعادة الإعمار

لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه، هو أنه إلى أي مدى سيكون من المجدي إعادة الإعمار، فيما الهجمات التركية مستمرة بين الفينة والأخرى وتتوسع على أهون ذريعة وحجة، وحيال ذلك بيّن جيا كرد لـ تارجيت: “نحن نعيش ظروفاً استثنائية وحالة طوارئ بكل مقاييسها، وكذلك نمضي في خط ثوري”.

متابعاً: “هدفنا تحقيق تطلعات شعبنا وبناء إرادة مجتمعنا، نحن نناضل مع شعبنا في هذه المسارات، ولا تعيقنا هذه الهجمات، لأنها كانت دوماً موجودة، ومع ذلك نطور، كل إمكانياتنا لمواكبة المرحلة وبناء قدراتنا الذاتية”.

وأكمل: “دون شك هذه الهجمات لم تكن ولن تكون الأخيرة، لطالما تركيا مُمتعضة من نشاطنا الديمقراطي في المنطقة، ولكن هذا لا يعني أن نستسلم للأمر الواقع ونرفع أيدينا، نحن لدينا حق ونسعى لضمانه، وطبيعي أن يكون هناك إعاقات وموانع”.

مستنتجاً: “بالمحصلة، هذه الهجمات لا تضرنا فقط، بل تضر أمن سوريا محلياً، وكذلك إقليمياً، ونتطلع بأن تكون روادع تركيا ومنعها في الاستمرار بهذا العدوان أكبر، من قبل كل القوى الحريصة على الاستقرار”.

القضية الكردية في تركيا

وإلى حدٍ ما، باتت مناطق الإدارة الذاتية، المكان الذي تفرغ فيه تركيا، مشكلاتها الداخلية، وبالأخص القضية الكردية، حيث تحاول تركيا منع المواطنين الكُرد داخل أراضيها، من القيام بأي تحرك عسكري أو سياسي، تحت طائلة التهديد بقصف أقرانهم في شمال سوريا.

وحول هذه المعادلة التي رسمتها أنقرة لنفسها، أوضح الرئيس المشترك لهيئة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، أن “القضية الكُردية قضية محورية ومهمة في المنطقة، وحلها يفتح آفاق كثيرة نحو ضمان الاستقرار”.

ونوّه إلى أنه بـ”النسبة لتركيا، فهي لا تحتاج أن ترسل رسائل لأحد تشرح سياساتها وأهدافها، لأنها واضحة في ذلك، وهي تتطلع لمشروع جديد في المنطقة ينطلق من إعادة الدور العثماني، وهذا غير ممكن إلا عبر التدخل بقضايا الشعوب، وكذلك استثمارها كما يحصل اليوم من خلال التدخل والعدوان على شمال وشرق سوريا، والاستثمار والمتاجرة في غزة”، مُستكملاً: “كذلك ذات السياسة (التركية) في العراق وأفريقيا وأذربيجان وأوكرانيا حتى”.

وأنهى حديثه لـ تارجيت بالقول: “على المستوى الكُردي، الحل الأمثل يكمن في شكل يضمن حل القضية الكُردية وانعطاف دولي نحوها، لأن دون حلها تتجذر المُعضلات في المنطقة، كون القضية الكردية جزء مهم من قضايا عدة، معني بها الكُرد وغيرهم، وهي قضية تجمع مظلومية الكثير من الشعوب، بحيث يفتح حلها آفاقاً لحل مُعاناة وقضايا شعوب أخرى أيضاً، عانت كالكرد من القمع والاضطهاد والإنكار”.

وحتى ذلك الحين، يبدو أن الرهان هو على صمود أهال شمال وشرق سوريا، وعلى المطالبة بحقوقهم في سوريا الجديدة من جهة، ووجود موقف دولي ينتصر لهم، وهو مرتبط إلى حد بعيد بالتشابك الحاصل بين ملفات المنطقة، من شمال سوريا إلى أوكرانيا، وصولاً إلى غزة، حيث ترتسم ملامح صراع طويل الأمد، وتحالفات جديدة يبدو أنها ستعيد تشكيل المنطقة من جديد.

قد يعجبك ايضا