يدرك القاصي والداني، أن الشعب الكُردي في سوريا، مُسلم بالعموم، أي يعتنق الديانة الإسلامية في معظمه، بجانب وجود أتباع لديانات أخرى بأعداد صغيرة جداً قياساً للمتدينين بالإسلام.
لكن ذلك لم يشفع للكُرد، عن وصمهم بالكفر والإلحاد، في سبيل تبرير غزو مناطقهم والتنكيل بأهلها، إذ كانت رأس الحربة فيها، وسائل إعلام سورية معارضة، طالما عملت على شيطنة الكُرد ووصفهم بشتى الأوصاف المُبتذلة التي تشرعن قتلهم وتُحلل مالهم وأرضهم وكل ما يرتبط بهم.
ولعل ما حصل في عفرين، منذ أن تم احتلالها في الثامن عشر من مارس للعام 2018، برهان واضح على نتاج العقلية المتطرفة والارهابية التي تحكم المعارضة السورية المُدارة من قبل أنقرة، والتي تسعى بلا أدنى شك إلى إبادة الكُرد ثقافياً ولغوياً واقتصادياً وبيئياً وحتى جسدياً، ما أمكن لهم ذلك.
إبادة ثقافية.. والكُردية تحتضر
والأكيد، بأن الضغط الإعلامي الذي نجح أهالي عفرين في خلقه حول الاحتلال التركي وميليشيات المعارضة السورية، قد كان له اليد الطولى في التخفيف من الانتهاكات الواسعة التي انتهجها التركي وأدواته السورية، رغم أنها لا تزال مستمرة.
إلا أن الإبادة الثقافية واللغوية لا تزال تجري على قدم وساق، حيث تبذل في سبيلها كل الإمكانات، وتسخر كل الطاقات، لتغيير هوية المنطقة المنفتحة والمعروفة بتحررها، والتي تنظر مثلاً إلى المرأة بعين الندية والتساوي، لتستبدلها بنظرة دونية تقلص من كيانها، وتجعلها أسيرة ذكورية طاغية مستترة بالدين.
أما اللغة، فتحتضر هي الأخرى في زاوية وحيدة، دون أن تجد من يُرَتَب على كتفها، حيث باتت الكُردية مقيدة إلى حد بعيد، عقب أن كانت لغة التعلم في مدارس عفرين، كلغة أبناء المنطقة الأصليين، إبان حكم الإدارة الذاتية، من العام 2014 إلى العام 2018.
إذ جعل الأتراك لغتهم التي لا تمت بصلة إلى سكان المنطقة الأصليين، اللغة الرسمية للتعلم إلى جانب العربية، فيما جعلت الكردية ثانوية محصورة بدرسين أو واحد خلال الأسبوع، سيُعمد مع الزمن إلى إزالتها، إن حقق التركي مراده في ضمّ عفرين، وقسّم سوريا.
التطرف الديني من بوابة التعليم
وفي إطار مساعيه لإعادة تشكيل الوعي في المنطقة الكردية شمال غرب سوريا، يعمل الأتراك على نشر الفكر الإخواني في عفرين، كهدف استراتيجي بعيد المدى، حيث يعمل بلا كلل ولا ملل، بغية إعادة برمجة عقول الأطفال والطلاب على ثقافة وموروث جديدين، قائمين على التطرف وإنكار الآخر، ورؤية المختلف دينياً أو عرقياً على أنه عدو.
وضمن هذا السياق، تُشاهد في عفرين اليوم، مدارس دينية كبيرة وبعدد مهول، تستقطب الطلاب وتُرغبّهم بالتعليم الديني، وليس للمُراقب أن يتوقع أن تنتج تلك المؤسسات الدنية والهيئات، ما هو أفضل حالاً من المُعارضة السورية ومسلحيها اليوم، كمثال جلي على المستقبل الذين ينتظر الخريجين منها، فالساسة منهم مرتهنون بالكامل للقرار التركي، والعسكر منهم بات بيدقاً تحركه أنقرة لتضرب بهم من تشاء وأينما تشاء.
وبذلك، لا ولن يمكن توقّع أن تنتج المدارس الدينية في عفرين، على اختلاف مسمياتهما وجهات دعمها، ما هو أفضل، ويدرك السوريون جلياً، حتى المقيمون منهم في المناطق المُدارة تركياً في شمال غرب البلاد، إن الأهداف التركي تنحصر في إنهاء الحضور السياسي والعسكري للكُرد، وشرذمتهم اجتماعياً، حتى لا تقوم لهم قائمة في يوم، وما عدى ذلك من شعارات تدعي الدفاع عن السوريين أو نصرتهم، ليست إلا هباءً منثور.
قطيع يُساعد النظام التركي
وبالكلام عن المدارس الدينية في عفرين، فإن عشرات المدارس المفتتحة من الجانب التركي، لا تبدو كافية حتى وصلت أخيراً مدرسة باكستانية، لتشد من أزر أخواتها التركية، في إعادة تشكيل الوعي الثقافي والمجتمعي في عفرين، وفق ما يتواق مع روئ أنقرة وتوجهاتها.
حيث افتتحت منظمة (سيلاني الباكستانية) بداية أكتوبر الجاري، مدرسة دينية في ناحية راجو، أكد ناشطون أنها لتدريس إيديولوجية الإخوان المسلمين والإسلام بصيغة متطرفة.
وللحديث عن المحاولات التركية لاستغلال الدين في خدمة مشاريعها التوسعية، قال الدكتور “محمد حبش”، وهو دكتور سوري في الفقه الإسلامي، ويُدرس في جامعة أبو ظبي، في حديث خاص لـ منصة تارجيت: “في الواقع أن النظام التركي يتبنى العلمانية، وهناك مؤسسات قوية جداً للرقابة على التوجه العلماني في تركيا، ولا تستطيع أي حكومة أن تتنكر للعلمانية”.
مُستدركاً: “لكن للأسف ما يجري هو أن النظام التركي الحالي، يبحث عن قطيع يساعده في تحقيق مآربه التي تقوم على إنكار حق الشعب الكُردي في الحياة، وحقه في تنظيم أموره، وحقه أيضاً في تأسيس إدارة ذاتية مُستقرة ضمن الوطن السوري”.
وأكمل: ” لذلك هو يبحث عن قطيع يُحقق له مآربه، وللأسف وَجَدَ هذا القطيع من خلال إثارة المشاعر الدينية، وتعزيز التوجه السلفي المُتشدد، لأن هذا التوجّه ليس خصماً للحالة الكُردية فقط، بل هو خصم لكل حالة حرية، وهو مُستعد أن يذهب إلى النهاية في أهواء العسكر التركي، مُقابل أن يحصل على سلاح، وأن يحصل على بعض المكاسب لاستئناف حروبه في كل مكان”.
وأكد الدكتور “حبش” أن ذلك القطيع “لا يستطيع أصلاً أن يتصالح مع أحد، لأن لديه تلك الرؤية الظلامية المُستقرة في الماضي، والتي ترفض الدولة الحديثة، ويرى أن حراك الكُرد هو حراك لا يتجه إلى تطبيق مفهومهم هم عن الشريعة، فبالتالي هذا حراك كافر، وللأسف يتم بشكل مُذري تحريض هؤلاء الأفراد والمجموعات الدينية لمُمارسة الكراهية والبغضاء ضد أبناء وطنهم، الذين يفترض بأنهم يجدون السبل للتعاون والتكامل معهم”.
المشكلة مع أبناء الوطن
وللتعقيب على افتتاح المدرسة الدينية من قبل المنظمة الباكستانية في عفرين، قال الدكتور “محمد حبش”: “أنا شخصياً لا أحب إحالة المسألة على خصوم غامضين يأتون من الآفاق البعيدة، المشكلة ليست مع مجموعة تركستانية أو باكستانية أو أغورية، المشكلة مع أبناء وطننا الذين يقومون بنشر الكراهية وتكفير الناس”.
متابعاً: “للأسف تتعامل معهم الإدارة التركية بطريقه نفعية، على الرغم من أنهم من أشد المُعارضين للعلمانية، يعني هم يساوون بشكل كامل بين العلمانية والكفر، ورغم ذلك، وجد النظام التركي سبيلاً للتعامل معهم، وهناك علاقة تخادم، يعني إنهم يقومون بخدمة المشروع التركي، مُقابل أن توفر لهم الإدارة التركية بعض المكاسب”.
مشدداً: “لا أعتقد أن المسألة خارجية، هي تحديداً بين الحكومة التركية، وبين هذا الجناح من أبناء سوريا أيضاً، الذين كان يجب أن ينشوا على التربية، المحبة، التعاون، التضامن، التكافل، الوطنية والإحساس بأبناء الوطن الواحد”.
مبدياً خيبته بالقول: “لكنهم للأسف يُقدّمون المشاريع الأيديولوجية على المشروع الوطني، ويتنقلون بين اتجاهات مُتناقضة، فهم من جانب يُحاربون إرادة الحرية في سوريا، لأنها ذات توجه علماني، ولكنهم يَعبِدون الإدارة التركية وهي ذات توجه علماني، وهذا لا يَستقيم، فالمبادئ للأسف في المرتبة العاشرة، والمصالح في المرتبة الأولى”.
سلاح ذو حدين
وبخصوص التعليم الديني المُنتشر في المناطق السورية الواقعة تحت السطوة التركية وفصائل المُعارضة السورية المُسلحة، رأى دكتور الفقه الإسلامي في جامعة أبو ظبي، إن “التعليم الديني سلاح ذو حدين، يمكن أن يُسهم في نشر الفضيلة والأخلاق والتربية، ويمكن أن يستخدم للأسف، لنشر الكراهية والعنف”.
وأنهى حديثه لـ تارجيت بالقول: “أعتقد أن المطلوب هو دعم التيارات الإسلامية المُستنيرة التي تفهم الإسلام حالة وطنية وأخلاقية ومجتمعية، ومُواجهة أي تفكير أيديولوجي طائفي أو مناطقي أو فئوي، يرفض الآخر ويخونه ويعتدي عليه، ليست المسألة في وجود التديّن، بل المسألة في استغلال هذا التديّن وتسخيره للمصالح السياسية”.
وفي ظل الأوضاع القائمة في سوريا، من المؤكد بأن الجهود التركية سواء في عفرين، أو في كامل الشمال الغربي من البلاد، لا بدّ وأن تُثمر المزيد من التطرف والإنكار المُستتر تحت عباءة الدين، وهي ليست إلا نتيجة لتراخِ دولي، ومُحاولة هذا الطرف أو ذاك لاسترضاء أنقرة، للمُحافظة عليها كحليف، رغم أن أنقرة لا تجد نفسها حليفاً إلا لمن يعطيها المزيد من المكاسب والمصالح.