انتهى لقاء مسرور بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان العراق قبل أيام مع رئيس الحكومة الاتحادية العراقية محمد شياع السوداني والذي جاء لحل الخلافات المتفاقمة بينهما فيما يتعلق بالموازنة ورواتب موظفي الإقليم، وقد أعقب ذلك اتفاق على إرسال 3 دفعات مالية لحكومة كردستان قيمة الواحدة 530 مليون دولار، بعد استغاثة وجهها “بارزاني” بالرئيس الأمريكي ومطالبته إياه بالتدخل، معرباً عن مخاوفه من انهيار الإقليم.
وتأتي تلك التطورات في وقت تفاقمت الخلافات بين أربيل وبغداد على خلفية عدم التوافق بشأن رواتب موظفي ومتقاعدي إقليم كردستان في الموازنة العامة، فضلاً عن أزمة الصراع بين العرب والتركمان والكرد للسيطرة على المقرات الأمنية في كركوك، وكذلك خلافات كبيرة حول مبيعات النفط من شمال العراق، لكن مراقبون يشككون في تأثير الاتفاق الذي بموجبه سيتم إرسال الدفعات المالية للإقليم.
تفاصيل رسالة بارزاني
وذكرت مجلة “أل – مونيتور” الأمريكية المهتمة بشؤون الشرق الأوسط أن الرسالة كانت مؤرخة بيوم 3 سبتمبر الجاري وتم تسليمها إلى البيت الأبيض يوم الأحد الماضي، وقد أكد خلالها رئيس حكومة كردستان أن الإقليم يمر بمنعطف حرج آخر في تاريخه، مشيراً إلى أنه يخشى صعوبة عدم التغلب على هذا المنعطف في ظل أن الإقليم ينزف سياسياً واقتصادياً.
ويقول “بارزاني” إنه للمرة الأولى في فترة ولايته كرئيس للوزراء، يشعر بقلق إزاء ما وصفها بـ”الحملة المشينة” ضد الإقليم، والتي قد تتسبب في انهيار نموذج العراق الفيدرالي الذي رعته الولايات المتحدة عام 2003، وزعمت أنها تقف بجانبه منذ ذلك الحين، كما تحدث عن قدرة واشنطن على نزع فتيل الأزمة، معرباً عن اعتقاده بأن إدارة بايدن تتمتع بنفوذ كبير لدى بغداد.
لكن بعد اللقاء الذي جرى في بغداد وقرار الأخيرة إرسال دفعات مالية، رحب “بارزاني”، في بيان نقلته وكالة فرانس برس بما قال إنه “اتفاق مثمر” مع بغداد من أجل ضمان تأمين رواتب المواطنين”، مضيفاً: “استطعنا الدفاع عن حقوق شعب كردستان، كما أشكرُ مواطنينا على صبرهم الطويل وصمودهم وثقتهم الراسخة في حكومتهم”. كما أجرى اتصالاً مع “السوداني” أعرب خلاله له عن “شكره وامتنانه على دعمه في التوصل إلى اتفاق بشأن مسألة متقاضي الرواتب في إقليم كردستان”.
تفاقم المشكلات بين بغداد وأربيل
يقول محمود خوشناو عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني إن حكومة كردستان نفت توجيه أية رسائل للإدارة الأمريكية كما زعمت “ألمونيتور”، واستدرك قائلاً في اتصال لمنصة “تارجيت” الإعلامية: “لكن لا أخفيك أن السفيرة الأمريكية أو الولايات المتحدة على تواصل مع الأحزاب السياسية في إقليم كردستان من أجل عدد من القضايا”.
وأوضح “خوشناو” أن هذه القضايا تتعلق بمسألة توحيد قوات البيشمركة وتنظيمها، وأيضاً قضية التعاون مع التحالف الدولي في إطار مكافحة الإرهاب، ودعم المؤسسات الدستورية في إقليم كردستان العراق وفي بغداد، كما أن التعاون الأمريكي – العراقي في الإطار الدبلوماسي موجود، وأيضاً دول المنطقة لديها احتكاك وتعامل مع حكومة الإقليم والأطراف السياسية من أجل تخفيف حدة التوترات.
وتحدث القيادي الكردي العراقي عن أبرز القضايا الخلافية بين بغداد وأربيل والتي أكد أنها متعددة، لكن أهمها الآن من وجهة نظره قضية رواتب المتقاعدين والموظفين وما يتعلق بالاتفاقية الموجودة في الموازنة 2023/2025، وهنا يأتي الخلاف بسبب قراءة كل طرف للموازنة، فإقليم كردستان يرى أنه يجب أن تكون حصته 12.6% من مجموع الموازنة، وفي بغداد يرون أن هذا يفوق الإنفاق العام وبالتالي ربما يخفض الموازنة إلى أدنى مستوى، لافتاً إلى أنه في هذه الحالة فإن حكومة إقليم كردستان لن تستطيع توفير رواتب الموظفين والمصروفات العامة والاستثمارية.
وقلل “خوشناو” من أهمية مخرجات لقاء “بارزاني – السوداني” قائلاً إن ما نتج عنه حل مؤقت، فهو تمويل لمدة 3 أشهر فقط إلى حين انتهاء التسوية بين الطرفين لما على الإقليم وبغداد وليست حلولاً جذرية، مؤكداً أنه يجب التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن حصة الإقليم من الإنفاق الفعلي وليس الإنفاق العام، فالحصة في إطار الموازنة مقدرة بـ 12.6% وهي نسبة قليلة إذا حسبت بالإنفاق الفعلي لأنها وقتها لن تتجاوز واقعياً الـ 5% من إجمالي الموازنة المقدرة بـ 199 تريليون دينار، ولهذا أقول إن الاتفاق الذي جرى مجرد حل مؤقت.
وتتمحور أزمة الموازنة بصفة أساسية حول الموقف من تصدير النفط، إذ ترى الحكومة المركزية أنها وحدها من لها الحق في استكشافه وتصديره على النحو الذي تراه، وبالتالي أبرمت عدداً من الاتفاقيات التي لم تنل رضا حكومة كردستان التي ترى أن الدستور ينص على حقها في أن تبيع هي النفط وتصدره حسب ما تراه، وقد تم التوصل إلى اتفاق عام 2015 بموجبه يسلم الإقليم 250 ألف برميل نفط يوميا لشركة النفط العراقية “سومو”، في المقابل تلتزم حكومة بغداد بتثبيت المستحقات المالية للإقليم ومن ضمنها رواتب الموظفين.
لكن هذا الاتفاق لم يصمد وعادت الخلافات ما تسبب في أزمة رواتب داخل الإقليم وصولاً إلى اتفاق جديد بموجبه يتم تصدير نفط إقليم شمال العراق كله عبر الحكومة المركزية، مقابل 12.6 من الموازنة العامة التي أقرت في مايو من العام الجاري، وقد أفرجت حكومة بغداد عن 380 مليون دولار يوم الأحد قبل الماضي، لكن هذه نسبة ضئيلة وحل مشكلة الرواتب يتطلب ضخ هذا المبلغ شهرياً وبشكل منتظم، وفق تقرير لقناة “الحرة” الأمريكية.
وقبل استفتاء عام 2017 الذي أجراه مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق السابق فيما عرف باستفتاء الانفصال كانت حصة الإقليم 17.5% من الموازنة المركزية، لكن مع التوصل إلى الاتفاق الخاص ببيع كردستان نفطه بعيداً عن الحكومة المركزية حقق قدراً كبيراً من الاستقلالية المالية في إطار قانون النفط والغاز.
الأزمات معقدة وممتدة
بدوره، يقول محمود الشناوي مدير تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية حالياً ومدير مكتبها سابقاً بالعراق إن الأزمة بين حكومتي كردستان وبغداد لم تهدأ يوماً، موضحاً، في اتصال هاتفي لمنصة “تارجيت” الإعلامية، أن المشكلة أتت عندما صدر قرار المحكمة الاتحادية في فبراير 2022 بإلغاء قانون النفط والغاز وتعليق تصدير نفط شمال كردستان في الشهر الذي يليه، إلى جانب قرار لجنة التحكيم الدولية في باريس الذي قضى بعدم قانونية تصدير نفط الإقليم بل وتغريم تركيا حوالي مليار ونصف دولار، وبالتالي فقد الإقليم جزءً مهماً من موارده، وأصبح موظفي كردستان لا يتسلمون رواتبهم بشكل منتظم، ما تسبب كذلك في مظاهرات عدة داخل الإقليم.
ولفت الكاتب الصحفي المصري إلى إشكالية أخرى ومهمة تتعلق بقانون الموازنة العراقية، حيث منح المدن الكردية الحق في طلب حصة من الحكومة المركزية بعيداً عن إقليم كردستان، وهو أمر يعتبره “الشناوي” بمثابة إجراء يمنح قبلة القوة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني “اليكيتي” الذي يعاني في مواجهة الحزب الديمقراطي الكردستاني “البارتي” فيما يتعلق بحصص السليمانية سواء في موازنة الخدمات أو حتى الحصص السياسية، وبالتالي فإن قرار بغداد منح “اليكيتي” قوة وفرصة للإفلات من ضغوط “البارتي”.
وتحدث “الشناوي” عن بعد آخر للأزمة بين بغداد وأربيل وهو قرار عدم قانونية تجديد ولاية البرلمان الكردي لمدة عام، وبالتالي كان ذلك سبباً في إشكالية عدم إجراء الانتخابات التي لا يزال من غير المعلوم إذا كان بالإمكان إجرائها من عدمه في ظل هذه التوترات السياسية والاقتصادية، مؤكداً أن هذه الأمور تفتت في عضد حكومة كردستان التي تمتعت باستقلال واستقرار كبير حتى في أشد فترات العنف في العراق والسيولة الأمنية والسياسية.
إشكالية كركوك
ويرى “الشناوي” أنه لهذه الأسباب جاء لجوء مسرور بارزاني إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي تدخل كثيراً وكانت نتيجة تلك التدخلات أن زار محمد شياع السوداني الإقليم بعد فترة قليلة من توليه رئاسة الحكومة وقد حاول تلطيف الأجواء، لكن الأمور يبدو أنها أكبر من أن تحل بزيارة، وبالتالي ليس أمام حكومة بارزاني إلا اللجوء إلى قوة دولية كبيرة مثل الولايات المتحدة لحل الخلافات لا سيما القرارات التي سلف الإشارة إليها.
ويضيف أنه ربما تكون هناك بارقة أمل لحل تلك الخلافات إذا تدخلت واشنطن وكان لديها إرادة لذلك، ولكن المشكلة الأخطر كذلك هي الوضع في كركوك وهي مكان قابل للاشتعال في أي وقت ومن ثم مزيد من التعقيد للأمور، لكن المطلوب الآن حل مشكلة الموازنة وتلك الخلافات السياسية من أجل عودة الاستقرار إليه أولاً ثم التفاوض بشأن الوضع في كركوك.
وكانت كركوك الغنية بالنفط شهدت بداية هذا الشهر اشتباكات وتوترات وتظاهرات بسبب خلاف حول مبنى كان يستخدمه الحزب الديمقراطي الكردستاني مقراً له، بينما يستخدمه الجيش العراقي كقاعدة له منذ عام 2017، حيث أصدرت المحكمة الاتحادية قراراً يلزم الحكومة المركزية بتأجيل تسليم المقر إلى الحزب، لا سيما في ظل مخاوف عربية ولدى الأقلية التركمانية من قوة الحزب الكردي وحديثهم عن مواجهة معاناة معه من قبل.
الإشكالية في عدم الالتزام بالدستور
يقول الدكتور غازي فيصل رئيس المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، في تصريح لمنصة “تارجيت” الإعلامية، إنه يفترض من جميع الأطراف الالتزام بالدستور والاتفاقيات لتعزيز الثقافة الديمقراطية التي لا تزال تعاني من قصور كبير في الفهم والوعي، بجانب انتهاكات وتجاوزات عديدة للدستور.
وأوضح أن دستور عام 2005 كان واضحاً فيما يتعلق بالنظام الفيدرالي والاتحادي والذي رسم حدود والتزامات الأقاليم وخصوصية إقليم كردستان، وبالتالي فالدستور يشكل القاعدة الأساسية التي يجب الاحتكام إليها، لكن المشكلة تكمن في أنه لا توجد أحزاب سياسية في العراق مدينة تؤمن بالنظام الفيدرالي وطبيعته، ولم يتم الاستفادة من تجارب دول سابقة مثل روسيا والهند والولايات المتحدة.
وأضاف أن الإشكالية أيضاً تتعلق بمسألة الاستحواذ على السلطة والسيطرة على الأموال وأن تكون الأحزاب هي المنتفعة من الثروة، وبالتالي أصبحنا أمام طبقة من قادة الأحزاب يمتلكون الثروة بينما هناك ملايين يعانون الفقر المدقع والبطالة والبؤس والعيش في مناطق عشوائية.
ويرى “فيصل” أنه يتوجب على السلطات الاتحادية تنفيذ الالتزامات الدستورية وكذلك يجب على حكومة كردستان أن تقوم بالأمر ذاته من أجل حل تلك الإشكاليات، لكن الطرفين يتحدثان عن استحقاقات وسط اتهامات متبادلة بعدم الوفاء بها، وبالتالي بدلاً من التصريحات والاتهامات يجب الجلوس إلى طاولة التفاوض.