قبل أسابيع قامت الدنيا ولم تجلس بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في النيجر، وكانت الدول الكبرى والدول الأفريقية المتشابكة معها في المصالح، ترى ضرورة اتخاذ قرار رادع وحاسم ضد قادة انقلاب النيجر، لأن ذلك من شأنه أن يفتح الباب إلى انقلابات لا تتوقف، لكن كل هذه التحذيرات والاجتماعات الدولية والتهديدات بتدخل عسكري لم تحول دون وقف سلسلة الانقلابات التي تشهدها دول غرب ووسط أفريقيا والتي كان آخرها انقلاب الأربعاء في الجابون.
المعضلة الرئيسية في تلك الأحداث أنها تكشف بشكل أو بآخر عن عودة صراعات النفوذ الشرسة إلى أفريقيا بين روسيا وذيلها فاجنر من جهة، والدول الغربية وعلى رأسهم فرنسا وأمريكا، وباتت دول القارة وكأنها تحت تأثير دومينو الانقلابات، كل فترة تسقط دولة في فخ الانقلاب والاضطرابات وربما مخاوف من حرب أهلية، في أزمات جرت العادة أنه يصعب حلها.
ملامح حرب باردة جديدة
الأحداث المعلنة تقول إنه عند وقوع الانقلاب العسكري في النيجر طلب قادة الانقلاب من روسيا التدخل وتحديدًا قوات فاجنر الروسية ومساندتهم في مواجهة الرئيس المخلوع محمد بازوم، والأخير بدوره وجه النداء لفرنسا وخص الولايات المتحدة الأمريكية بالتحرك لمنع سقوط دولته في براثن النفوذ الروسي، على حد تعبيره.
يقول رامي زهدي الباحث المصري في الشؤون الأفريقية، لمنصة تارجيت الإعلامية، إنه ما من شك أن الانقلابات في أفريقيا تكون ذاتية المولد والحركة أي مرتبطة بأسباب داخلية، ولكن بدون تدخلات خارجية لا يمكن أن تخرج إلى النور، فالتدخل الخارجي هو الذي يشعل أسباب الانقلاب فلا يوجد انقلاب عسكري في القارة إلا وكان هناك دورًا خارجيًا خلفه، لدرجة أننا نرى اليوم انقلاب الجابون يأتي بعد شهر و4 ايام تقريبًا من انقلاب النيجر، ورغم أن نتائج الانتخابات ليس – في رأيي – بالعامل الذي يحرك انقلابًا لأن الرئيس الجابوني فاز بولاية ثالثة بنسبة 65% وهي نسبة أقل من نسبه في أي انتخابات سابقة.
ويرى “زهدي” أن ما يحدث حاليًا من القوى الدولية هو عملية نقل للصراع من نطاقات جغرافية إلى نطاقات جغرافية أخرى سواء في أوكرانيا أو تايون، والآن الملعب الجديد ومسرح العمليات قارة أفريقيا، والجميع يستخدم أدواته للاستفادة، لكن هذه الأدوات لا تعمل دون وجود دوافع داخل تلك الدول.
منطق فرنسا
وبينما كانت فرنسا تصدر بيانًا يندد بالانقلاب العسكري في الجابون ويطالب بضرورة احترام نتائج الانتخابات، وهو نفس موقها من انقلاب النيجر، أصدر قادة الانقلاب في نيامي بيانًا يمهلون فيه القوات الفرنسية شهرًا لمغادرة البلاد، في أكبر تحد لباريس في هذه المنطقة من أفريقيا، في وقت تراقب واشنطن الموقف الذي يرى البعض أنه يعادة تشكيله لصالح موسكو.
في هذا السياق، يقول المحلل السياسي والأكاديمي الفرنسي بيير لوي ريمون، لمنصة تارجيت الإعلامية، إن فرنسا دورها تراجع في أفريقيا، إذ أن العمل على أساس منطق حماية المصالح عن طريق التواجد العسكري – وهو ما تفعله باريس – لم يعد صالحًا، بل وأيضًا مرفوضًا من قسم عريض من الشعوب الأفريقية لا سيما بين الشباب الأفريقي. وأضاف “ريمون” أنه لا يمكن لدور فرنسا أن يكون فاعلًا من الآن فصاعدًا إلا عن طريق الاستثمار الاقتصادي في المجال التكنولوجي ونقل الخبرات لدول القارة السمراء.
ويستدرك قائلًا: “صحيح أن فرنسا لم تتمكن من تحقيق كل أهدافها التي حددت بناء على الطلبات التي قدمتها النظم الحاكمة السابقة على الانقلابات، لكن لا يمكن اتهامها بزرع التوتر، لأن الأهداف التي كانت محددة وتسعى باريس لتحقيقها تم تحديدها بالاتفاق مع هذه الأنظمة”. ويتحدث الأكاديمي الفرنسي عن الهتافات التي خرجت على سبيل المثال في النيجر بعد الانقلاب والتي نادت بالموت لفرنسا، فيقول إن هذه الهتافات مبالغ فيها، لأن باريس جاءت إلى النيجر وتواجدت بناء على طلبات الحكومات المتعاقبة التي أرادت أن تساعدها على مكافحة التنظيمات الإرهابية، زاعمًا أن هؤلاء الشباب الذي يرددون هذه الهتافات يخضعون إلى حد بعيد لحملة إعلامية تمارسها روسيا.
وعما إذا كانت السياسات الفرنسية تتحمل نصيبًا بين أسباب انقلاب الجابون، يقول ريمون إن انقلاب الجابون يعيدنا إلى إشكالية الدعم الذي قدمته فرنسا لقادة أفارقة افتقدت نتائج انتخاباتهم التي أتت بهم على رأس السلطة إلى الشفافية والنزاهة، مضيفًا: “وبالتالي يمكن قراءة هذا الانقلاب كرسالة موجهة إلى قوة استعمارية سابقة بأن الزعماء الذين تدعمهم دعمًا غير مشروط لم يعودوا مرغوبًا فيهم، لكن في نهاية المطاف حرية اختيار القادة وانتخابهم تعود للشعب و أيضًا السهر على نزاهة المخطط الانتخابي في بلدانهم”.
“فاجنر” الروسية وصراع النفوذ العسكري
ولطالما كانت أفريقيا ساحة نفوذ على مدار السنوات الماضية بين روسيا وأمريكا خصوصًا على الصعيد العسكري والصراع من أجل إقامة القواعد العسكرية بحسب كثير من الدراسات والتقارير الغربية كمتظمة تريكونتنينتال، ففي عام 2007 أنشأت واشنطن قيادة “أفريكوم” تحت غطاء مساعدة الدول الأفريقية في التعامل مع الأزمات الأمنية والاستجابة للتهديدات، وصولًا إلى أن أصبحت القوات الأمريكية تتوزع في 15 دولة أفريقية وتمثلها 13 قاعدة عسكرية دائمة، إلى جانب 17 أخرى غير دائمة.
وقد بدأت الدول المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية تتفطن لهذا الوجود، إذ تحولت روسيا إلى أكبر مصدري السلاح لقارة أفريقيا، كما أنها نشطت عسكريًا في عدة دول مثل ليبيا والسودان وبوركينافاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والسنغال، وتلعب هذا الدور عبر يدها الطولى المتمثلة في مجموعات فاجنر.
في هذا السياق، يرى الدكتور نبيل رشوان الخبير في الشأن الروسي أن الحديث عن دور عسكري لمجموعات فاجنر في قارة أفريقيا لدرجة إحداث انقلابات أو دعمها أمر به قدر كبير من المبالغة، موضحًا، في تصريحات لمنصة تارجيت الإعلامية، أن مجموعات فاجنر لا تنتشر إلا في دول أفريقية محدودة، ودورها عادة ما يكون في إطار حماية رئيس أو حماية زعيم سياسي ما، فأعداهم قليلة وأدوارهم أمنية إلى حد ما في ظل الصراعات القبلية التي تضرب كثير من مناطق قارة أفريقيا.
ويرى الخبير في الشأن الروسي أن الحديث عن صراع نفوذ سياسي في أفريقيا خلال الفترة الأخيرة هو أمر واقعي، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن موسكو وغيرها من العواصم الأوروبية وواشنطن أهملوا أفريقيا لبعض الفترات، وعندما نظروا إليها وجدوا أن الصين تقريبًا سيطرت على القارة تمامًا خصوصًا في الجوانب الاقتصادية ومشروعات البنية التحتية، لدرجة أن دولة مثل غانا كل شيء بها تقريبًا ملك بيجين ما عدا القوات المسلحة.
وأضاف “رشوان” أنه هنا بدأت الدول الغربية سواء روسيا أو الدول الغريمة لها في أوروبا وأمريكا النظر في مسألة العودة للقارة واللحاق بما لم تصل له يد الصين بعد، وقد ازداد ذلك بقوة بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، واتسع ركعة الصراعات السياسية لتصل إلى بقع جديدة.
وإلى جانب النفوذ الاقتصادي، تسعى الصين لتعظيم حضورها العسكري في القارة، إذ تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي، كما أنها تشارك بقوات حفظ سلام في 6 دول أفريقية، فيما تقلص النفوذ الفرنسي بدرجة كبيرة مقارنة بتاريخها الاستعماري بأفريقيا، فقد كان لديها 100 قاعدة عسكرية في منتصف القرن الماضي، لتصبح 4 فقط دائمة في الجابون والسنغال وكوت ديفوار والسنغال.
في ضوء تلك المؤشرات وجهت منصة تارجيت السؤال مرة أخرى إلى رامي زهدي الخبير في الشؤون الأفريقية حول ما قد يحمله مستقبل القارة، والذي قال إن لعبة الصراع بين روسيا والغرب مستمرة وتتواصل في أفريقيا، وبالتأكيد القارة هي التي ستدفع ثمن ذلك باهظًا، لا سيما أن معظم الدول الأفريقية تعتبر دول حديثة النشأة، ولا تزال في إطار السعي لبناء مستقبل جديد، ولم تكد تفق من أزمة كورونا وتداعياتها ثم الحرب الروسية – الأوكرانية حتى تجد نفسها أمام انقلابات ستعيدها خطوات كثيرة للوراء، لأن الانقلابات عادة لا تخلق استقرارًا أو تقدماً.