خمسة أعوام مرت على بدء احتلال عفرين وريفها شمال غربي سوريا من قبل تركيا والفصائل التابعة لها في الثامن عشر من آذار/ مارس عام ألفين وثمانية عشر، ولا تزال الانتهاكات بحق السكان الأصليين وتهجيرهم وبناء المستوطنات والتغيير الديمغرافي تتصدر المشهد هناك، على مرأى ومسمع المجتمع الدولي وفي تحد واضح للقرارات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
في هذا التاريخ وبعد معاناة عاشها السكان امتدت لثمان وخمسين يوماً تحت القصف التركي بمختلف أنواع الأسلحة، بدأت المدينة وريفها صفحة جديدة من تاريخها، عنوانها الأبرز احتلال وانتهاكات لا تتوقف بحق أهلها من قتل وتهجير واختطاف مقابل الفدى، وتحوّل غالبية سكان المنطقة إلى مهجرين في مناطق أخرى لاسيما منطقة “الشهباء” بريف حلب الشمالي، هرباً من ممارسات الاحتلال والفصائل التابعة له، حتى انخفضت نسبة الكرد في المنطقة إلى أقل من خمسة وعشرين بالمئة مقارنة بنحو ثمان وتسعين بالمئة من نسبة السكان قبل الاحتلال عام ألفين وثمانية عشر.
ومنذ الاحتلال وعمليات بناء المستوطنات في عفرين وريفها تسير على قدم وساق، من قبل تركيا وبدعم من دولة قطر و”جمعيات” قطرية وكويتية وفلسطينية، والتي أنشأت حتى الآن أكثر من عشرين مستوطنة موزعة على المدينة وريفها خاصةً ناحيتي شران وجنديرس، في إطار مخطط تغيير ديمغرافي ممنهج لم يعد خافياً على أحد، بدأت تركيا والفصائل التابعة لها بتنفيذه بالمنطقة منذ احتلالها عبر البدء بتهجير السكان الكرد الأصليين والاستيلاء على منازلهم، وكان آخر فصولها بدء “مؤسسات” تتبع لقطر، بناء مستوطنات بريف عفرين تحت غطاء العمل الإنساني مستغلة كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق شمال غرب سوريا في السادس من شباط/ فبراير الماضي.
مصادر محلية من منطقة عفرين، أكدت أن بعض “الجمعيات والمنظمات”، أبرزها منظمة “أفاد” التركية و”الرحمة” الكويتية و”قطر الخيرية” و”هيئة الإغاثة التركية” بدأت مؤخراً التخطيط لإنشاء مستوطنات جديدة، تنتشر بالدرجة الأولى في ناحية جنديرس بريف عفرين وهي الأكثر تضرراً من الزلزال، ومحيط مدينة عفرين وناحية كفر جنة بريفها، في حين كشفت جمعية “العيش بكرامة” الفلسطينية التي تبنى مستوطنات في عفرين منذ احتلالها، عن تورط بنك “هدوعليم” الإسرائيلي بدعم مشاريعها الاستيطانية بعفرين، حيث أعلنت عن عمليات بيع لوحدات سكنية في مستوطنة معراتة بريف المدينة المحتلة بالعملة الإسرائيلية بقيمة 6700 شيكل أي ما يعادل 1868 دولاراً أمريكياً ووجهت المعلومات المصرفية إلى فرع البنك المذكور في بلدة “الطيرة” داخل أراضي الثماني وأربعين في إسرائيل وهي المقر الرئيسي للجمعية المذكورة، وقال موقع “عفرين بوست” إن الأرض التي تم بناء المستوطنة عليها تعود ملكيتها لعائلة “دادو” الكردية.
جمعيات قطرية وكويتية تبني مستوطنات بعفرين
المتحدث الرسمي باسم منظمة عفرين لحقوق الإنسان إبراهيم شيخو، قال في حديث لمنصة تارجيت، إن الاحتلال التركي وبدعم من “جمعيات قطرية وكويتية” بنى أكثر من عشرين مستوطنة إلى جانب عشرات المخيمات في عفرين وريفها، تتوزع بشكل أساسي في نواحي شيراوا وشيه وجنديرس، لتوطين المستوطنين من مناطق سورية أخرى وتركمان وفلسطينيين إلى جانب
عوائل عناصر الفصائل التابعة له بمنازل السكان الأصليين، مضيفاً أنه جرى تهجير أكثر من ثلاثمئة ألف كردي من السكان الأصليين وتوطين نحو أربعمئة ألف شخص بدلاً عنهم في المنطقة، في إطار خطة ممنهجة لتغيير التركيبة السكانية وتغيير ديمغرافية المنطقة.
سياسة تتريك ممنهجة في عفرين
شيخو، أضاف أن هناك عمليات تتريك ممنهجة في عفرين، حيث يتم فرض الليرة التركية في التعاملات اليومية بدلاً من الليرة السورية وإصدار بطاقات تعريفية باللغتين التركية والعربية وعدم الاعتراف بالبطاقة الشخصية السورية، إلى جانب فرض المناهج التعليمية التركية في مدارس عفرين وغيرها من الممارسات، مؤكداً أنهم على تواصل مع لجنة تقصي الحقائق الدولية ومنظمة العفو الدولية وجهات أخرى، لاطلاعهم على هذه الانتهاكات ومحاولة وضع حد لها.
موقع عفرين الجيوسياسي جعلها هدفاً لتركيا
من جانبه، قال عضو منسقية المبادرة الوطنية من أجل عفرين أحمد زيبار في تصريحات لتارجيت: “إن الموقع الجيوسياسي لمنطقة عفرين الواقعة شمال غربي سوريا على بعد ستين كيلومتراً عن مدينة حلب والمكونة من سبع نواح وثلاثمئة وست وستين قرية على مساحة ثلاثة آلاف وثمانمئة كيلومتر مربع وذات غالبية كردية تبلغ سبعة وتسعين بالمئة، جعل تركيا تسعى لإحداث تغيير ديمغرافي فيها مهدت له قبل الاحتلال عندما قال رئيسها رجب طيب أردوغان أن خمسة وستين بالمئة من سكان المنطقة هم من العرب والتركمان، وبدأت فعلياً بذلك بعد الاحتلال مستخدمةً فصائل مسلحة و(جمعيات ومنظمات) أرهبت الشعب الكردي عبر استخدام الأسلحة وهجرت أكثر من ثلاثمئة ألف نسمة منهم بعد أن كانوا ضحية الحرب الظالمة التي استمرت ثمان وخمسة يوماً.
جماعة الإخوان المسلمين وحلم استعادة الإمبراطورية العثمانية
زيبار، أضاف أن “معظم الجمعيات المتواجدة هناك تعمل تحت مظلة تنظيم الإخوان المسلمين الذي ترى حكومة أردوغان على أنها امتداد للخلافة العثمانية، ومعظمها تأتي من قطر والكويت ومناطق عرب الثمانية وأربعين في إسرائيل، مثل (جمعية شام الخير وبتمويل من جمعية الرحمة العالمية الكويتية التي بنت مجمع كويت الرحمة في منطقة شيراوا، و”جمعيات الخيرية العالمية للتنمية والتطوير والشيخ عبدالله النوري الخيرية والعيش بكرامة الفلسطينية وعطاء بلا حدود القطرية وقطر الخيرية) والتي تعمل جميعها تحت غطاء إنساني لتنفيذ أجندات النظام التركي وتغيير ديمغرافية المنطقة الذي يروق لجهات عديدة تريد خلق عداء بين المكونات السورية وتعادي أبسط حق من حقوق الشعب الكردي في سوريا”.
وبحسب زيبار، فإن “الحرب القاسية التي شنتها تركيا على عفرين مستخدمة الأسلحة الحديثة والألاف من المرتزقة السوريين ضمن فصائل إرهابية تحت مسمى “الجيش الوطني” أدت الى تهجير أكثر من ثلاثة أرباع سكان عفرين الأصليين واستقدام عشرات الآلاف من عوائل المسلحين ومئات الآلاف من العرب والتركمان وإسكانهم في بيوت العفرينيين بعد الاستيلاء عليها بالقوة، إلى جانب ممارسة تلك الفصائل أبشع الممارسات بحقهم من فرض للإتاوات وخطف مقابل الفدى والقتل تحت التعذيب والتمييز العنصري الذي يفوق ما كان عليه إيام النظام البعثي، والذي برز بشكل كبير خلال الزلزال الأخير حيث بقي الكرد تحت الأنقاض وتعرضت ممتلكاتهم للسرقات كما تم حرمانهم من المساعدات، موضحاً أن تركيا لجأت بالبداية إلى بناء مخيمات عديدة بالمنطقة قبل أن يتم التوجه لبناء المستوطنات التي تحوي شقق سكنية ومدارس وجوامع ومراكز صحية، ما أدى لانخفاض نسبة الكرد في المنطقة إلى أقل من خمسة وعشرين بالمئة وتحولت المنطقة من ذات صبغة كردية خالصة إلى أن يكون الكرد فيها أقلية، في إطار خطة تركية لتقليل دور الكرد في المعادلة السورية مستذكرة تجربتهم بالعراق، الأمر الذي تقاطع مع رغبات النظام السوري والمعارضة السورية، والذين اتفقوا جميعهم على تهميش الشعب الكردي ورفض إعطائه أي حق من حقوقه القومية”.
وتؤكد مصادر محلية من عفرين، أنه ومنذ كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب شمال غربي سوريا في السادس من شباط/ فبراير الماضي، زادت وتيرة بناء المستوطنات، حيت استغلت تركيا الكارثة لتعميق عمليات التغيير الديمغرافي، خاصة في ناحية جنديرس، حيث بنت مخيمات خارج الناحية واشترطت على السكان المتضررين السكن فيها لتقديم المساعدات لهم وإعادة إعمار منازلهم المهدمة، إلا أنهم يتخوفون من الاستيلاء عليها وسرقة ما تبقى من ممتلكاتهم من قبل الفصائل التابعة لتركيا، بالتزامن مع بدء (جمعية قطر الخيرية) ببناء (مدينة الكرامة) في الناحية بحجة إيواء ستمئة عائلة من المتضررين من الزلزال.
التغيير الديمغرافي بعفرين يطيل عمر الأزمة ويفتح الباب لصراعات
بدوره، قال عضو المجلس الرئاسي في مجلس سوريا الديمقراطية إبراهيم الثلاج في تصريحات لمنصتنا: “إن التغيير الديمغرافي في عفرين التي هي من مناطق سوريا التاريخية وذات الغالبية الكردية، مستمر منذ اليوم الأول للاحتلال التركي لها، عبر بناء مستوطنات في كافة مناطقها، ومن خلال استبدال السكان الأصليين للمنطقة باللاجئين السوريين الذين تتم إعادتهم من تركيا، إلى جانب تغيير معالم وطبيعة عفرين عبر قطع الأشجار ونبش وهدم المناطق الأثرية”، مشيراً إلى أن “عمليات التغيير تتم عبر دعم من جمعيات قطرية وكويتية إلى جانب قوى فلسطينية تدعم الاستيطان باسم جمعيات خيرية وجماعة الإخوان المسلمين من خلال جمعيات معينة تابعة لها”.
الثلاج، اعتبر أن “هذه الممارسات ليست من مبادئ وقيم (الثورة) السورية، وستطيل من عمر الأزمة وستجعل الحل بعيد المنال، وتفتح المنطقة على صراعات طويلة والشعب السوري بغنى عنها، لافتاً إلى أنهم في مجلس سوريا الديمقراطية يسعون إلى الوصول إلى سوريا ديمقراطية تعددية ولكل السوريين من عرب وكرد وسريان وجميع المكونات”، ومؤكداً في الوقت نفسه أن “مجلس سوريا الديمقراطية يعمل عبر قنواته الرسمية والإعلامية وبشتى الوسائل لإيصال ما يجري في عفرين للمجتمع الدولي والرأي العام العالمي”.
عضو منسقية المبادرة الوطنية من أجل عفرين أحمد زيبار، أوضح أن “الجمعيات المتواجدة في عفرين، تعمل على أخونة المجتمع وإضفاء الطابع الإسلامي المتشدد عليه، حيث أنهم لا يغيرون التركيبة السكانية من خلال جعل العرب والتركمان هم الأكثرية فحسب، بل يعملون على تغيير الأدمغة والعقول، وفي حال استمرار الحال على ما هو عليه، فإننا أمام (أفغنة) المجتمع في عفرين أي تطبيق النموذج الأفغاني هناك”، لافتاً إلى أن “المبادرة الوطنية من أجل عفرين منذ تأسيسها في آب/ أغسطس الماضي، تعمل على التواصل مع المنظمات الحقوقية المهتمة بالشأن السوري عامةً وبعفرين خاصةً، من أجل إيصال مآسي العفرينيين وما يتعرضون له من انتهاكات وجرائم إلى المجتمع الدولي”، مؤكداً أنه “تم التواصل مع بعضها لكن ورغم التعاطف الشعبي في أكثر من بلد غربي، إلا أن لغة المصالح بين الدول هي التي تطغى على حساب حقوق الشعوب”، ومشدداً في الوقت نفسه على أن “تحقيق طموحات هذه الشعوب، يتطلب التكاتف وتوحيد الجهود بين كافة القوى الفاعلة من أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني لإحداث تأثير على الأرض حيث أن كسب التعاطف لوحده لا يكفي فلا بد من ترجمة هذا التعاطف أفعالاً على الأرض”.
إذاً، فبناء المستوطنات والتغيير الديمغرافي في عفرين مسلسل تطول حلقاته ومستمر مع استمرار الاحتلال التركي وهو جزء من سياسية ممنهجة تهدف لتغيير ديمغرافية الشمال السوري المحتل بشكل كامل بدءاً من إعزاز أقصى الشمال الغربي وصولاً إلى رأس العين/ سري كانيه بالشمال الشرقي، حيث تؤكد تقارير حقوقية أن عدد المستوطنات بالشمال المحتل بما في ذلك عفرين بلغ نحو خمس وأربعين مستوطنة معظمها جرى بناؤه خلال النصف الثاني من العام الماضي والأشهر الأولى من العام الحالي.