من الإيديولوجيا إلى الدولة: هل يصبح الجولاني مؤسس الجمهورية السورية الثانية؟

دارا مصطفى/كاتب وسياسي سوري

 

في خضم الفوضى السياسية والاجتماعية التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، تبرز شخصيات تحمل على عاتقها إمكانية إعادة تشكيل مصير البلاد. أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، يجد نفسه اليوم أمام لحظة مفصلية في التاريخ السوري، حيث تتوافر له فرصة نادرة للتحول من قائد عسكري محصور في تنظيم إلى مؤسس للجمهورية السورية الثانية.

لكن هذا التحول لا يمكن أن يحدث دون اتخاذ خطوات جريئة وحاسمة. الجولاني، المعروف باسمه الحركي، يحتاج أن يظهر للسوريين والعالم باسمه الحقيقي، أحمد الشرع. هذه الخطوة تتجاوز حدود الرمزية، لتكون إعلاناً عن تحول جديد في نهجه، يعكس رغبته الحقيقية في بناء دولة وطنية حديثة تتخطى قيود الإيديولوجيا التي بني عليها تنظيمه. وهنا يكمن السؤال الكبير: هل يستطيع أحمد الشرع تجاوز إرث الجولاني ليصبح رمزاً لجميع السوريين بدلاً من أن يظل قائداً لفصيل محدود؟

المشهد التاريخي وتوقيت الفرصة

هيئة تحرير الشام نشأت كحركة أيديولوجية ذات توجه ديني متشدد، تحمل أفكاراً يصعب التوفيق بينها وبين طبيعة الدول الحديثة التي تقوم على التعددية واحترام الحريات. إذا كان الشرع جاداً في التحول إلى مؤسس للجمهورية السورية الثانية، فإنه بحاجة إلى اتخاذ قرارات شجاعة تعيد صياغة توجهاته. هذا لا يعني التخلي الكامل عن المبادئ التي قامت عليها الحركة، لكنه يتطلب تعديلاً جوهرياً لتلك المبادئ لتتلاءم مع متطلبات بناء دولة حديثة.

الجمهورية السورية الثانية، إن أراد الشرع تأسيسها، يجب أن تقوم على مفهوم المواطنة المتساوية. لا يمكن أن تُبنى دولة حديثة على أسس إيديولوجية حصرية أو على تقسيم المجتمع إلى أقليات وأغلبية. عوضاً عن ذلك، يجب أن يُنظر إلى السوريين على أنهم مكونات متكاملة تشارك بفعالية في صياغة مستقبل البلاد. هذا النهج، رغم صعوبته، هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى دولة حاضنة للجميع.

نموذج القائد الوطني: أحمد الشرع

التاريخ مليء بالنماذج التي يمكن أن يستلهم منها الشرع في مسعاه. نيلسون مانديلا، على سبيل المثال، قاد جنوب إفريقيا من مرحلة الانقسام العنصري إلى عهد جديد من الوحدة والمصالحة. كذلك فعل مهاتما غاندي عندما قاد الهند نحو الاستقلال على أسس من الشمولية واحترام التنوع.

اليوم، أحمد الشرع أمام فرصة مماثلة. يمكنه أن يتحول من زعيم فصيل مسلح إلى قائد وطني جامع، لكن هذا يتطلب رؤية شاملة تضع حقوق جميع السوريين في المقدمة. يجب أن تكون رؤيته قائمة على الشراكة بين كافة المكونات: العلويين، والدروز، والمسيحيين، والكرد، والتركمان، وغيرهم، ليس كأقليات تبحث عن حماية، بل كشركاء حقيقيين في بناء الدولة.

التعامل مع تركيا كجار وند

من أبرز التحديات التي ستواجه الشرع إذا قرر التحول نحو بناء الدولة هي صياغة علاقة متوازنة مع تركيا والدول العربية. تركيا لعبت دوراً كبيراً في الشأن السوري، ولكن كثيراً من أطياف المعارضة وقعت في فخ التبعية لأنقرة، ما أفقدها استقلاليتها وشرعيتها أمام السوريين وأمام الدول العربية التي تخشى من أن يتحول الدور التركي إلى مشروع عثماني جديد أو امتداد لمشروع إخواني يستهدف استقرار المنطقة.

على أحمد الشرع أن يدرك أن إعادة صياغة العلاقة مع تركيا يجب أن تعكس استقلال القرار السوري بشكل واضح، بحيث تكون العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة دون السماح بأي تدخل خارجي يمس بسيادة سوريا. في الوقت ذاته، يجب أن يعمل الشرع على طمأنة الدول العربية بشأن موقع سوريا في المستقبل، مؤكداً أن سوريا لن تكون جزءاً من أي مشروع إقليمي يهدد استقرار الدول العربية أو يعيد إنتاج النفوذ العثماني بغطاء جديد.

هذا التوازن في التعامل مع تركيا والعرب لن يعزز فقط مكانته كقائد مستقل قادر على تمثيل جميع السوريين، بل سيمنحه شرعية أكبر في نظر السوريين الذين يتطلعون إلى قيادة وطنية تحافظ على وحدة سوريا وعلاقتها التاريخية مع جيرانها العرب.

الانفتاح على جميع السوريين: حقوق المكونات لا الأقليات

أحد أكبر التحديات التي تواجه أي مشروع لبناء دولة جديدة في سوريا هو تجاوز الخطاب القائم على حماية “الأقليات” نحو خطاب أكثر شمولاً يتحدث عن “المكونات”. السوريون ليسوا بحاجة إلى حماية، بل إلى شراكة حقيقية في بناء الدولة.

هذه الشراكة تبدأ بضمان تمثيل عادل لكل المكونات في مؤسسات الدولة، من السلطة التنفيذية إلى التشريعية. يجب أن يضمن الدستور الجديد حقوقاً متساوية للجميع، دون تمييز. كذلك، من الضروري تعزيز السياسات التي تحترم التنوع الثقافي والديني، وإيجاد نظام لامركزي يمنح المكونات إدارة شؤونها مع الحفاظ على وحدة الدولة.

تحديات الانتقال من الحركة إلى الدولة

التحول من قيادة حركة ذات طابع عسكري وأيديولوجي إلى بناء دولة مدنية حديثة ليس بالمهمة السهلة. هناك عقبات داخلية وخارجية ستواجه الشرع، بدءاً من مقاومة الأجنحة المتشددة داخل هيئة تحرير الشام التي قد ترى في هذا التحول خيانة للمبادئ، وصولاً إلى كسب ثقة السوريين الذين عانوا من ممارسات الحركة.

لكن التحدي الأكبر قد يكون في بناء علاقات دولية متوازنة. الشرع بحاجة إلى إقناع المجتمع الدولي بأنه قادر على قيادة مرحلة جديدة، مع الحفاظ على استقلال القرار الوطني وعدم تقديم تنازلات تمس بالسيادة.

دور الدعم الدولي والإقليمي

لكي ينجح الشرع في مشروعه، عليه تقديم رؤية سياسية واضحة تبعث برسائل طمأنة إلى الداخل والخارج. يجب أن يظهر التزاماً حقيقياً ببناء دولة مدنية تحترم حقوق الإنسان، وأن يكون صريحاً في رفض الإرهاب والتطرف. كذلك، عليه أن يسعى لتحقيق استقرار إقليمي عبر سياسة خارجية مستقلة ومتوازنة.

الحصول على دعم دولي وإقليمي لا يعني تقديم تنازلات، بل يعني بناء شراكات قائمة على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.

اختبار القيادة والرؤية

أمام أحمد الشرع فرصة ذهبية ليبرهن على قدرته على القيادة. عليه أن يقدم رؤية شاملة لإعادة الإعمار تشمل كل المناطق السورية، إلى جانب آليات حقيقية للمصالحة الوطنية تحقق العدالة الانتقالية. الأهم من ذلك، يجب أن يطرح نظاماً سياسياً جديداً يضمن تداول السلطة ويمنع احتكارها.

هذه الرؤية يجب أن تكون طموحة وواقعية في آن واحد، تعكس تطلعات السوريين جميعاً إلى مستقبل أفضل.

مستقبل سوريا في حال نجاح التحول

إذا نجح أحمد الشرع في استغلال هذه اللحظة التاريخية، فقد تكون سوريا على أعتاب مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي والاجتماعي. التحول من زعيم هيئة تحرير الشام إلى مؤسس للجمهورية السورية الثانية قد يفتح الباب أمام تسوية سياسية شاملة، ويعيد بناء المؤسسات، ويعزز فرص إعادة الإعمار.

لكن إذا فشل الشرع في استغلال هذه الفرصة، فإن التاريخ قد يذكره كقائد أضاع لحظة نادرة كان يمكن أن تغير مسار البلاد.

أحمد الشرع أم أبو محمد الجولاني

يقف أحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني، عند مفترق طرق حاسم: بين أن يكون زعيماً لفصيل إيديولوجي أو مؤسساً لجمهورية جديدة تحتضن جميع السوريين. التحدي ليس سهلاً، ولكنه قد يكون نقطة تحول في تاريخ سوريا الحديث. القيادة الحقيقية تتطلب شجاعة للخروج من الماضي نحو مستقبل يعيد بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة والمساواة. فهل يختار أحمد الشرع أن يكون قائداً وطنياً، أم يبقى حبيس قيود الإيديولوجيا وحبيس شخصية أبو محمد الجولاني؟

قد يعجبك ايضا